التضخم وسعر الدولار مقابل الجنيه
بعد الانخفاض المتتالي في سعر الجنيه أمام الدولار وبالتالي في قيمة الجنيه نفسه وقوته الشرائية التي تتدنى يوما وراء يوم وجدنا بعض من يدَّعون التحليل الاقتصادي يؤكدون أن خفض الجنيه في صالح الاستثمار! وأن المستثمرين سيقبلون على مصر بعد ذلك التخفيض الكبير في قيمة الجنيه، وهذا كلام غير علمي وغير واقعي.
لكن الحقيقة أن ذلك التخفيض المتتالي يجعل المستثمر في غاية القلق أن يستثمر في دولة عملتها يوميا تنخفض مما يؤكد له عدم ثبات العملة المحلية، وبالتالي لا يستطيع أن يحسب حسابات المكسب والخسارة بصورة دقيقة، فيحجم عن الاستثمار في هذه البلد ليذهب إلى أخرى بها ثبات في العملة وفي السياسة النقدية بصورة عامة، فمعالجة السياسة النقدية والمالية في مصر شرط ضروري لجذب الاستثمارات.
وفيما تشهد سوق الصرف الرسمية حالة من الهدوء والاستقرار، يواصل البنك المركزي تحركات مكثفة بالتعاون مع الحكومة والبنوك العاملة في السوق، لبحث آليات زيادة الحصيلة الدولارية وتوفير العملة الصعبة في ظل استمرار تكدس البضائع في الموانئ وعدم قدرة المستوردين على توفير المبالغ اللازمة للإفراج عنها.
سعر الدولار مقابل الجنيه
وتشير البيانات إلى أن الدولار الأميركي شهد ارتفاعات بأكثر من 620 في المائة مقابل الجنيه منذ بداية عام 2000 وحتى قرار البنك المركزي بخفض قيمته خلال ثاني اجتماع استثنائي في 2022، حيث قفز سعر صرف الدولار الأميركي من مستوى 3.42 جنيه في عام 2000 إلى مستوى 24.62 جنيه في الوقت الحالي. وعلى خلفية هذه الارتفاعات، يبلغ متوسط المكاسب السنوية للدولار مقابل الجنيه المصري نحو 28.20 في المائة خلال الـ22 عامًا الأخيرة.
ونستطيع أن نؤكد من خلال ما يحدث اقتصاديا أنه يجري بالفعل تعويم للعملة المصرية مقابل الدولار، ولكن في إطار ما يسمى التعويم المدار أو التعويم التدريجي. وما يتحدث عنه البعض في شأن القيام بخفض كبير في قيمة العملة المصرية لن يحدث، بخاصة أن البنك المركزي المصري يستهدف سياسة صرف مرن ولكن بشكل تدريجي.
وكان البنك المركزي المصري قد أعلن في بداية نوفمبر من عام 2016، أول تعويم للجنيه مقابل الدولار الأمريكي، وذلك في إطار تنفيذ المرحلة الأولى من برنامج الإصلاح الاقتصادي التي نفذتها الحكومة تحت إشراف عدة مؤسسات دولية يتصدرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وعلى خلفية القرار، فقد أعلن البنك المركزي وقتها، خفض قيمة العملة من مستوى 8.80 جنيه إلى مستوى 13 جنيهًا. وواصل سعر صرف الدولار ليسجل بنهاية عام 2016 أعلى مستوى مقابل الجنيه عندما بلغ نحو 19.60 جنيه.
وشهد العام الحالي عودة البنك المركزي المصري إلى ترك تحديد سعر صرف العملات الأجنبية طبقا للعرض والطلب من جديد، حيث أعلن خلال اجتماع استثنائي عقده في الماضي، رفع سعر صرف الدولار من مستوى 15.74 جنيه، إلى نحو 19.60 جنيه. ومجددًا عاد مرة ثالثة ليقوم بمرة أخرى بترك تحديد السعر طبقا للعرض والطلب في نهاية أكتوبر الماضي، حيث تقرر خفض قيمة العملة المصرية من مستوى 19.60 جنيه إلى مستوى 24.62 جنيه في الوقت الحالي.
نمو اقتصادى
لكن حتى الآن، ما زالت التوقعات السلبية تطارد الجنيه، حيث كشف بنك نومورا الياباني، في مذكرة بحثية حديثة، أن مصر هي الدولة الأكثر عرضة لأزمة عملة بين الأسواق الناشئة خلال الأشهر الـ12 المقبلة. وتصدرت مصر القائمة بين الـ32 سوقًا ناشئة المدرجة على مؤشر داموكليس التابع لبنك نومورا الياباني، مما يعد مؤشرًا على فرصة قوية بأن البلاد ستتعرض لأزمة في سعر الصرف خلال الأشهر المقبلة.
وفي السياق ذاته، كانت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، قد أعلنت تعديل نظرتها المستقبلية للاقتصاد المصري من مستقرة إلى سلبية، مرجعة ذلك إلى تدهور وضع السيولة الخارجية للبلاد. وأبقت الوكالة على التصنيف الائتماني للبلاد عند مستوى (+B)، وعزت ذلك إلى النمو الاقتصادي القوي، والدعم الدولي القوي من الحلفاء الخليجيين والشركات الدوليين.
لكن في الوقت نفسه، حذرت الوكالة من أنها قد تخفض التصنيف خلال الأشهر المقبلة، إذا استمرت ضغوط التمويل الخارجي أو لم تتمكن الحكومة من خفض العجز وتقليص نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، فيما يعكس التخفيض "تدهور وضع السيولة الخارجية وتراجع آفاق الوصول إلى سوق السندات، ما يجعل البلاد عرضة لظروف عالمية معاكسة في وقت ارتفاع عجز الحساب الجاري وآجال استحقاق الديون الخارجية".
زيادة التضخم
وأرجعت وكالة فيتش تعديل نظرتها المستقبلية للاقتصاد المصري، إلى التدهور في وضع السيولة بالعملة الأجنبية وانخفاض آفاق وصول مصر لسوق السندات ما يتركها تصارع عواقب الأحداث العالمية في وقت يسجل فيه حسابها الجاري عجزًا مرتفعًا وينتظرها سداد ديون خارجية.
الوكالة الدولية أشارت إلى تراجع الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي لأقل من 32 مليار دولار بنهاية أكتوبر الماضي، مقابل نحو 35 مليار دولار في مارس ونحو 40 مليارًا في فبراير وعلى الرغم من استقرارها في الأشهر الأخيرة، فإن معدل تغطيتها للمدفوعات الخارجية الجارية أقل من متوسط تغطية أقرانها أصحاب التصنيف نفسه عند أربعة أشهر.
وذكرت الوكالة أن مصر تواجه موقفًا مركبًا على صعيد مدفوعات الدين الخارجي، التي قدرتها بنحو ستة مليارات دولار في العام المالي 2023 وتسعة مليارات دولار في العام المالي 2024 باستبعاد ودائع الخليج والقروض الثنائية التي على الأرجح قابلة للتمديد. وقالت إن ما كشفت عنه الحكومة المصرية من تمويلات تغطي ما تحتاج إليه خلال العام المالي الحالي في حال عادت بعض استثمارات المحافظ المالية وتدفق 10 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بدعم من خطة الخصخصة من الحكومة خصوصًا لصالح المستثمرين في دول مجلس التعاون الخليجي.
وفيما يتعلق بالتوقعات الخاصة بالتضخم وقيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، رجحت فيتش، أن يؤدي خفض الجنيه إلى زيادة معدلات التضخم، مما يرفع معدلاته على الأرجح إلى مستوى 17 في المائة في المتوسط على أساس سنوي خلال العام المالي الحالي، و12 في المائة في العام المالي المقبل، بافتراض ارتفاع متواضع لقيمة الجنيه مقابل الدولار ليصل إلى 24 جنيهًا. وأشارت الوكالة إلى أن المخاطر تميل إلى الاتجاه الصعودي وأن البنك المركزي المصري قد يشرع في إقرار مزيد من زيادات أسعار الفائدة لترويض التضخم المرتفع الذي سجل خلال الشهر الماضي أعلى مستوى في أكثر من أربع سنوات.