رئيس التحرير
عصام كامل

مجتمع المصطبة!

ما عمر إهتمام المصريين بأي خبر عام كارثي، على مستوى البلد أو مستوى الفرد، المشهور وغير المشهور؟ بضع ساعات. قبل ساعات اشتعلت جلسات النميمة على المواقع الإخبارية، ومنها إلى صفحات البث المباشر لكل ما يلفظ من قول، بنبأ القبض على فنانة مصرية بعد تفتيشها بمطار القاهرة والعثور على مواد يشتبه أنها مخدرة، وتمت إحالتها إلى النيابة، التى لم تلبث أن أفرجت عنها بضمان مالى خمسون ألف جنيه، لحين ورود تقرير المعمل الجنائي بشأن الأثني عشر كيسا المحتوية على مواد يشتبه أنها مخدرة، وسيجارتين. 

 

بطبيعة الحال، أثار الخبر اهتمام الناس، وتحولت البيوت إلى مصاطب ثرثرة إلكترونية، وكثرت الفتاوي والتحليلات، وكان أبرزها أن الفنانة مغضوب عليها.. وأن القصة مصطنعة لإلهاء الشعب، ولن نعيد الطفح المجتمعى، الذي يرثى له في الحقيقة. والقصة ليست قصة فنانة ضبطت وتم التشهير بها وإنها قيد التحقيق، بل قصة المجتمع المصرى الذي بات يقضي وقته ولياليه على النواصي والمصاطب الفضائية الإلكترونية. قبل واقعة الفنانة، تابع الناس قضايا لفنانة تعالج من الإدمان والاضطراب النفسي، وأمس أيضا يتابع الناس الرجل الذي أعلن تطليق زوجته في فرح ابنته! وغدا ستقع قصص تالية ولن يكف المصريون عن الثرثرة.

ترند وشائعات

هل هذا طبيعي؟ ألم نكن نثرثر وننم من قبل؟ أم طرأت علينا هذه النقيصة حديثا؟ لا طبعا، كان النم قائما، والثرثرة موجودة، لكنها كانت حلقات صغيرة، وفيها من الشائعات أكثر مما فيها من الحقيقة، وكانت الجلسات الخاصة وقعدات الأسر تتناول الأحداث المحيطة بها في دائرة العائلة أو الشارع، أو أخبارا بالصحف نشرت وفق قواعد النشر المهنى الصحيح، من ناحية التأكد والمراجعة وحماية حق الشخص موضوع الخبر في حجب خصوصياته، وحتى عدم نشر صورته.


مع التطور التكنولوجي أصبح الموبايل وعليه تويتر وفيسبوك وانستجرام بمثابة صحف خاصة، بل تليفزيون وراديو خاصين، بعبارة أخرى صار لكل مواطن في مصر، بل في العالم، صحيفة ومحطة بث مرئي ومسموع، فهو يستقبل مئات الأخبار، منها القليل الصادق والكثير الزائف، ويرسل مثلها في دقائق. أضف إلى هذا التيسير التكنولوجي حالة الارتهان التى صارت متلازمة مرضية بين الشخص والموبايل، فهو يطالعه كل ربع ساعة إذا صبر وتحمل، والبعض لا يطيق البعاد عن التصفح والتعليق لخمس دقائق. هو إدمان بعبارة أقصر، والكل يعرف أنه إدمان وأننا جميعا رهائن ومدمنين، ولا نعرف كيف نتحرر.


من أجل هذا اتسع نطاق التناول، وهو ما صار يسمى الترند، أو بالكلمة التى نحتها الوعي المصرى، الهرى، وسيستمر الناس في ذلك طالما يتمتع كل فرد الأن بمكبر صوت وكاميرا ولوحة حروف حلت محل الأقلام والأوراق، وقريبا ستنتهى هذه الأدوات، وتحل محلها الصورة التلفزيونية المباشرة، تنقلك للشخص ذاته، أو تلتقون افتراضيا، وجها لوجه وتدور الأحاديث الزائفة وغير الزائفة.


مقتضى ما سبق أن الكلام لا يزال المتعة الأولى للإنسان، وأن الخوض في الأعراض، والميل إلى ترديد الزائف من الكلام، لايزال لصيقا بالإنسان، وأن الفضول لم يتوقف عند المعرفة المحددة المعالم بالحقائق، بل يعمل الخيال على بناء القصص التى تجلب رضا الآخرين ودهشتهم، ليزدادوا إعجابا بنا، ونزداد غرورا ودولارات!

ومقتضى ما سبق أن كل ما تعلمه الناس من قيم الدين ليست إلا تدينا شكليا ومظهريا، إذ ما معنى أن ينهاك دينك عن نهش أعراض الناس و يزجرك أن تنم وأن تغتاب ويحذرك أن تكون فاسقا إذ تبث أخبارا كاذبة، ثم تغمض عينيك وعقلك وضميرك، وتتحول إلى بوق كاذب أحمق لا يراعي دينا ولا قانونا، ولا عرفا؟
استروا يستركم الله الستار وتحروا الحقيقة، ولا تجردوا الناس من حيائهم فتشيع البجاحة ويصبح الفضح أسلوب حياة.

الجريدة الرسمية