عندما يصبح الكوبري مؤسسة ثقافية
في إحدى زياراتى للصين هالنى ما يقدمونه من لوحات خضراء على الكبارى، حيث لا ترى من الكوبري إلا مساحات خضراء.. كيف زرعوها؟ وكيف يرعونها؟ وكيف جاءت هذه الفكرة؟ في ثقافتنا الكوبري هو مبنى على شكل قوس يعبر بالسيارات مناطق مزدحمة، وفي العادة يتحول الكوبري في بلادنا إلى حمام قميء يبث من الأمراض والقبح والروائح الكريهة ما لا يطيقه البشر أو غيرهم.
ورغم أن المعنى الأقرب لكلمة الكوبري بأنه أداة اتصال وتواصل، فإن الكوبري لدينا مساحة من العبث والعشوائية وملاذ للأتربة والقاذورات، ويتحول أسفله إلى نموذج لكل ما يمكن أن تتوقعه من جرائم.
وفى الآونة الأخيرة ومع الطفرة الكبيرة فى الكبارى وزيادتها إلى حد اللامعقول، أصبح للكوبري وظيفة أخرى.. الكوبري معناه محلات وكافيهات وأكشاك!! صحيح الأكشاك أفضل بكثير مما كانت عليه حالة الكبارى القديمة، ولكن السؤال: هل تستوعب القاهرة كل هذه المقاهى ومطاعم الأكلات السريعة وبعض الأنشطة التجارية الأخرى؟
تدعى الإحصائيات الرسمية أن بمصر اثنين مليون مقهى، والرقم صحيح على المستوى المسجل والمرخص، أما الرقم الحقيقى دون مبالغة منا إن قلنا إنه يتعدى ضعف هذا الرقم. ومع طفرة الطرق المدهشة خلال السنوات الثمانية الماضية، فقد أضيف إلى هذا الرقم عدد كبير وتحولت البلد إلى مقهى كبير، ومواقع لبيع السندوتشات وغيرها من المشروبات.
الحاصل كان مثار دهشة من الجميع، فقد أصبح بين كل مقهى ملحق بمحطة بنزين مقهى آخر وبنفس المواصفات والأسماء والماركات، لدرجة أنك قد لا ترى فيها من الناس عددا يعد على أصابع اليد الواحدة. ولم يكن الحال أكثر تفاؤلا تحت الكبارى التى تراصت تحتها مطاعم وكافيهات تتنافس كلها في مربع واحد وعلى مستهلك واحد، وبنفس الخامات والمواد لدرجة أن بعضها لم يستمر كثيرا بسبب زيادة المعروض عن الطلب.
ربما يظن الزائر الغريب عن بلادنا أن الوطن كان يشكو من قلة عدد المقاهى ومطاعم التيك أواى، لذلك كان اتجاه الدولة الرسمى هو حل هذه المشكلة بإضافة أعداد ضخمة منها تحت الكبارى. انتقدنا ذلك وغيرنا سار على نفس المنهج حتى جاء توجيه الرئيس بإضافة البعد الثقافى والمعرفى للأنشطة التجارية بطرق وكبارى القاهرة استكمالا لوظيفتها وتعميقا لما يمكن أن تقوم به.
ساحات للجمال
تصورنا أنه يمكن إضافة معارض للفنانين ومكتبات ثقافية وأنشطة تجارية تعتمد على الإنتاج اليدوى والحرفى المصرى فنخلق مساحات وساحات للجمال بعد أن سكن عاصمتنا القبح بكل تفاصيله. وحتى لا يتحول توجيه الرئيس إلى غير المراد فإن تحقيقه بحاجة ماسة إلى توسيع الأفق في التنفيذ وقد نجعل من هذه المساحات ساحات فنية تتوزع بين عدد من الأنشطة الثقافية والمعرفية بشكل يليق بزخم عاصمة هى الأولى دبلوماسيا على مستوى العالم.
على الرسامين والنحاتين وأصحاب الحرف اليدوية الخروج من صوامعهم ومن محابسهم إلى الناس.. إلى الشارع وقد يكون من اللائق تخصيص مساحات لنوع من الفنون بعينها. من أراد الاطلاع على لوحات فنان شاب أو رؤيته يمارس عمله أن يتوجه إلى الكوبري الفلانى وهناك وعند كوبرى آخر سترى نحاتين يصنعون بأناملهم صنعا جميلا.
أما الصناعات الحرفية التى ضاق عليها الخناق، فقد تجد مكانا متسعا أمام الجماهير لتوفير عنصر الإتاحة والمنافسة وتشجيع هؤلاء المهرة بحرفهم المصرية قديمها وحديثها. وهل نرى باعة كتب الأرصفة وقد أتيحت مساحات بأسعار مناسبة يعرضون كتبهم على المارة وبشكل حضارى ومتاح يصنع حالة من العمق الإنسانى المفقود؟
هل نرى مساحات لجامعات مصر الحكومية والخاصة تسهم فى عرض أفكار ومواهب شبابها لتصبح جزءا من الحراك الثقافى والمعرفى بدلا من حبسها في مقراتها؟ هل نرى مسرحا صغيرا تعزف عليه ألحان الشباب وتعرض مسرحياتهم ولو بشكل تبادلى فتصبح الطرق والكبارى مساحة ثقافية تقوم بما لا تقوم به الثقافة الجماهيرية؟ الأفكار كثيرة ومتنوعة وتحتاج إلى إرادة حقيقية تحول التوجيه إلى مشروع ثقافى معرفى خدمي يليق بمصر وتاريخها وحضارتها بدلا من ثقافة الشيشة.