معارك العميد.. هاجم “الرافعي”.. وخضع للتحقيق بسبب “الشعر الجاهلي”.. وتحداه زكي مبارك في معركة “لقمة العيش”
في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889 ولد عميد الأدب العربي، طه حسين، وقد تميّزت حياته بالكثير من المعارك التي خاضها والآراء التي أطلقها فأثارت الجدل، ووجهت له العديد من الاتهامات، لكنه لم يكترث، فظل مستكملًا طريقه الذى رسمه ببصيرة لم تتوفر لغيره، لذلك شهدت حياته العديد من المعارك.
عن طه حسين الذى حلت ذكرى وفاته التاسعة والأربعون فى الثامن والعشرين من أكتوبر الماضى نتحدث، وعن معاركه نرصدها السطور التالية..
العميد والرافعي
بدأت أولى معارك عميد الأدب العربى حين كتب فى مجلة «الجريدة» عام 1912 تعقيبًا على كتاب بعنوان «تاريخ آداب العرب» لمصطفى صادق الرافعى، ووصف الرافعى بالجمود الفكرى، وكتب فى مقاله بالجريدة: «إنّه لم يفهم منه حرفًا واحدًا».
لم يكتفِ طه حسين بما كتبه فى «الجريدة»، لكنه كتب نفس الرأى فى كتاب «حديث القمر»، فوجَّه له “الرافعى” سهام نقده، ووصف أسلوبه بالركاكة والتكرار، وشبهه بأنه «يمضغ الكلام مضغًا»، وعندما انتقد طه حسين كتاب «رسائل الأحزان» لمصطفى الرافعى، هنا توجه “الرافعى” بمقالات نقدية متتالية فى مجلة «السياسة» لطه حسين.
استمرت المعركة النقدية بين “العميد” و"الرافعى"، وفتح الأخير وابلًا مِن المقالات النقدية، فبدأه بالحجة والدليل على كتابه تاريخ آداب العرب، فرد “العميد” وكتب عن الرسائل «كل جملة من جُمل الكتاب تبعث فى نفسى شعورًا قويا أن الكاتب يلدها ولادة، وهو يُقاسى فى هذه الولادة ما تُقاسيه الأم من آلام الوضع».
واحتدم وطيس المعركة عندما رد “الرافعى” على “طه حسين” قائلًا: "لقد نبغت فى الخيال بعد أن قرأت «رسائل الأحزان» وستنبغ أكثر بعد أن تقرأ «السحاب الأحمر»، أفأنت تقوم لى فى باب الاستعارة والمجاز والتشبيه). جاء ذلك فى كتاب «تحت راية القرآن» لمصطفى الرافعى.
وسخر مصطفى الرافعى من طه حسين قائلًا: «لقد كتبتُ رسائل الأحزان فى ستة وعشرين يومًا، فاكتب أنت مِثلَها فى ستة وعشرين شهرًا، وها أنا أتحداك أن تأتى بمثلها أو بفصلٍ من مثلِها».
الشعر الجاهلى
اشتدت المعركة على طه حسين فى عام 1926، عندما ألف كتابه المثير للجدل «فى الشعر الجاهلي»، وعمل فيه بمبدأ “ديكارت”، وخلص فى استنتاجاته وتحليلاته إلى أن الشعر الجاهلى منحول، وأنه كُتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين.
وهنا بدأت معركة جديدة لطه حسين، تصدى له بالنقد علماء فى الفلسفة واللغة منهم: (مصطفى صادق الرافعى، والخضر حسين، ومحمد لطفى جمعة، والشيخ محمد الخضرى، ومحمود محمد شاكر، وغيرهم). وأثار كتاب «الشعر الجاهلي» ضجة كبيرة، واحتدمت ضده معركة النقد من الآراء المعارضة، وذلك ما توقعه “طه حسين”في مقدمه الكتاب.
وقام مصطفى صادق الرافعى بتأليف كتاب بعنوان «تحت راية القرآن» للرد على كتاب «فى الشعر الجاهلى»، وألف أيضًا «بين القديم والجديد» للرد على كتاب ألفه طه حسين وهو «مستقبل الثقافة فى مصر».
ودخل فى المعركة عدد من علماء الأزهر، وقاموا بمقاضاة طه حسين، لكن المحكمة برأته لعدم ثبوت أن رأيه قصد به الإساءة المتعمدة للدين أو للقرآن، فقام طه حسين بتعديل اسم كتابه إلى «فى الأدب الجاهلي» وحذف منه المقاطع الأربعة التى أُخِذت عليه.
ووصل الأمر إلى مجلس النواب، وأثيرت إشكالات كثيرة ووقعت مواجهات بين رئاسة الوزراء ووزارة المعارف ونواب المجلس، وكان «طه» وقتها مُسافرًا إلى فرنسا، فاقترح النائب عبد الحميد البنان إبادة كتاب «فى الشعر الجاهلى»، وإحالة الدكتور طه حسين إلى النيابة، وإلغاء وظيفته، لكن الأمر تم تسويته فى مجلس الأمة بعد ذلك.
وراسل طه حسين مدير الجامعة قائلًا: «أؤكد لعزتكم أننى لم أُرِد إهانة الدين ولم أخرج عليه، وما كان لى أن أفعل ذلك، وأنا مُسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر...»، العام التالى غُيِّر عنوان الكتاب ليُصبح «فى الأدب الجاهلي»، وحُذفت بعض المُغالطات، وأثنى على الرافعى لكتابه «تاريخ آداب العرب» الذى انتقده من قبل!
معركة لقمة العيش
وحدثت بين عميد الأدب العربى طه حسين والدكتور زكى مبارك معركة أدبية أخرى، اعتبرها البعض أكبر معركة أدبية وقعت فى تاريخ الأدب العربى المعاصر، واستمرت وقائعها خلال الفترة من عام 1931 وحتى عام 1940، وبدأت عند عودة زكى مبارك إلى مصر عام 1931، وبعد حصوله على الدكتوراه من السوربون فى «النثر الفنى فى القرن الرابع الهجري»، حيث عُيِّن بعقد للعمل فى الجامعة المصرية.
كان هناك خلاف بين زكى مبارك والمستشرقين فى السوربون، وواصل زكى مبارك خلافه بعد عودته لمصر، وكتب كتاب «النثر الفنى فى القرن الرابع الهجري»، الذى انتقده كثيرًا، لكن طه حسين أهمله وأعرض عن التحدث عنه، وأشار إلى ذلك الكتاب ومؤلفه بقوله: «كتاب من الكتب ألفه كاتب من الكتَّاب»! (أنور الجندى «المعارك الأدبية".
وعندما أقيل طه حسين للتقاعد، عام 1933، من منصب عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية، بعد أزمة كتابه «الشعر الجاهلي»، كان زكى مبارك يعمل بوظيفة مدرس بكلية الآداب، وبرغم أنه كان من القلة الذين دافعوا عن طه حسين على صفحات الصحف، لكن عند عودة طه حسين إلى عمادة كلية الآداب رفض تجديد عقد زكى مبارك للعمل بوظيفة مدرس بكلية الآداب، وانحصرت حيثيات القرار فى نفوذ المستشرقين وانحياز بعض المثقفين ممن درسوا فى الغرب لأفكار الغربيين وثقافاتهم.
كان القرار بمنزلة الشرارة التى فجرت أحداثا أكبر، ووقع الصدم العنيف بين طه حسين وزكى مبارك. كانت المواجهة فكرية فى بدايتها، ثم تحولت إلى خلاف شخصى استمر نحو 9 سنوات، وعُرفت فى الأدب العربى بمعركة «لقمة العيش».
بدأها زكى مبارك بمقال قال فيها: «لقد ظن طه حسين أنه انتزع اللقمة من يد أطفالى، فليعلم حضرته أن أطفالى لو جاعوا لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه، ولكنهم لن يجوعوا ما دامت أرزاقهم بيد الله». (أنور الجندى «المعارك الأدبية"
وتوالت مقالات زكى مبارك للهجوم على طه حسين وكل ما يصدر عنه من كتابات وآراء، ويرى البعض أن الخلاف الفكرى بين طه حسين وزكى مبارك يرجع إلى أمرين، الأول: رؤية طه حسين أن العقل اليونانى هو مصدر التحضر، وأن عقلية مصر يونانية، ولابد لمصر أن تعود إلى احتضان ثقافة وفلسفة اليونان، لكن زكى مبارك كان ضد هذه النزعة اليونانية، واتهم طه حسين باتباع آراء المستشرقين والأجانب.
وكان الخلاف الثانى يتعلق بالنثر الفنى، فيرى زكى مبارك أن أصل النثر الفنى عند العرب يمتد إلى ما قبل الإسلام، فى حين رأى طه حسين أن «النثر الفنى فن اكتسبه العرب بعد الإسلام، ولم يُعرف إلا أواخر العصر الأموى حين اتصل العرب بالفرس».
نقلًا عن العدد الورقي..،