علي جمعة: الاحتفال بمولد النبي بدعة محمودة
قال الدكتور علي جمعة، المفتي السابق للجمهورية، إن الاحتفال بمولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من البدع المحمودة، وخاصة إذا اقتصرت على قراءة القرآن والطعام، مؤكدًا أن الأئمة استحبوا الاحتفال بالمولد الشريف، بأن يكون الاحتفال بتلاوة القرآن والذكر وإطعام الطعام، دونما أن يتطرق إلى مظاهر مذمومة "كالرقص والطبل وما إلى ذلك".
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
وأكد علي جمعة أن الاحتفال بمولد النبي، ﷺ، أمر مقطوع بمشروعيته، لأنه أصل الأصول ودعامتها الأولى، استحب جماعة العلماء الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وبينوا بالأدلة الصحيحة استحباب هذا العمل؛ بحيث لا يمكن إنكار ما سلكه السلف الصالح من الاحتفال بذكرى المولد النبوي.
وكتب الدكتور على جمعة تدوينة عبر الفيس بوك "لقد كان المولد النبوي الشريف إطلالة للرحمة الإلهية بالنسبة للتاريخ البشري جميعه، وعبر القرآن الكريم عن وجود النبي ﷺ بأنه "رحمة للعالمين" وهذه الرحمة لم تكن محدودة فهي تشمل تربية البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم وتقدمهم على صعيد حياتهم المادية والمعنوية كما أنها لا تقتصر على أهل ذلك الزمان بل تمتد على امتداد التأريخ بأسره {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}.
احتفال المولد النبوي بالمدائح
وأضاف "والاحتفال بذكرى مولد سيد الكونين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبي الرحمة سيدنا محمد ﷺ من أفضل الأعمال وأعظم القربات، لأنه تعبير عن الفرح والحب للنبي ﷺ ومحبَّة النبي ﷺ أصل من أصول الإيمان، وقد صح عنه أنه ﷺ قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده". [رواه مسلم]. وأنه ﷺ قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". [رواه البخاري].
وتابع علي جمعة قائلًا: "قال ابن رجب: "حبَّة النبي- ﷺ - من أصول الإيمان، وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها الله بها، وتوعد من قدَّم عليهما محبَّة شيء من الأمور المحبَّبة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}. ولما قال عمر للنبي - ﷺ -: أنت أحبُّ إليَّ من كلِّ شيء إلاَّ من نفسي فقال: «لا يا عمر، حتَّى أكون أحبَّ إليك من نفسك» فقال عمر: والله أنت الآن أحبُّ إليَّ من نفسي، قال: «الآن يا عمر». [رواه البخاري].
مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي
وأوضح أن "الاحتفال بمولده ﷺ هو الاحتفاء به، والاحتفاء به ﷺ أمر مقطوع بمشروعيته، لأنه أصل الأصول ودعامتها الأولى، فقد علم الله سبحانه وتعالى قدر نبيه، فعرَّف الوجود بأسره باسمه وبمبعثه وبمقامه وبمكانته، فالكون كله في سرور دائم وفرح مطلق بنور الله وفرجه ونعمته على العالمين وحجته."
وقال "وقد درج سلفنا الصالح منذ القرن الرابع والخامس على الاحتفال بمولد الرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلامه بإحياء ليلة المولد بشتى أنواع القربات من إطعام الطعام وتلاوة القرآن والأذكار وإنشاد الأشعار والمدائح في رسول الله ﷺ، كما نص على ذلك غير واحد من المؤرخين مثل الحافظين ابن الجوزي وابن كثير، والحافظ ابن دحية الأندلسي، والحافظ ابن حجر، وخاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطي رحمهم الله تعالى."
وعن الاحتفال بالمولد قال علي جمعة: "وألف في استحباب الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف جماعة من العلماء والفقهاء بينوا بالأدلة الصحيحة استحباب هذا العمل؛ بحيث لا يبقى لمن له عقل وفهم وفكر سليم إنكار ما سلكه سلفنا الصالح من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وقد أطال ابن الحاج في [المدخل] في ذكر المزايا المتعلقة بهذا الاحتفال، وذكر في ذلك كلاما مفيدا يشرح صدور المؤمنين، مع العلم أن ابن الحاج وضع كتابه المدخل في ذم البدع المحدثة التي لا يتناولها دليل شرعي."
المقصد في الاحتفال بالمولد
وتابع جمعة "قال خاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطي في كتابه «حسن المقصد في عمل المولد» بعد سؤال رفع إليه عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع، وهل هو محمود أو مذموم، وهل يثاب فاعله؟ قال: «والجواب عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي - ﷺ - وما وقع في مولده من الآيات، ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر النبي - ﷺ - وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف."
ورد السيوطي على من قال: «لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة» بقوله: «نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود مبينا أن إمام الحفاظ أبا الفضل ابن حجر رحمه الله تعالى قد استخرج له أصلا من السنة، واستخرج له هو- يعني السيوطي- أصلا ثانيا موضحا أن البدعة المذمومة هي التي لا تدخل تحت دليل شرعي في مدحها أما إذا تناولها دليل المدح فليست مذمومة»
وأضاف "روى البيهقي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: «المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة، والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد وهذه محدثة غير مذمومة. وقد قال عمر بن الخطاب في قيام شهر رمضان نعم البدعة هذه، يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى هذا آخر كلام الشافعي."
مخالفة الكتاب والسنة
واستطرد قائلًا: "قال السيوطي: «وعمل المولد ليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع، فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي وهو من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول، فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان، فهو إذن من البدع المندوبة كما عبر عنه بذلك سلطان العلماء العز ابن عبد السلام».
وعن الاجتماع بالمولد قال جمعة: "وأصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة، لأن ولادته أعظم النعم علينا والشريعة حثت على إظهار شكر النعم، وهذا ما رجحه ابن الحاج في المدخل حيث قال: «لأن في هذا الشهر منّ الله تعالى علينا بسيد الأولين والآخرين، فكان يجب أن يزاد فيه من العبادات والخير وشكر المولى على ما أولانا به من النعم العظيمة».
وأضاف "والأصل الذي خرج عليه الحافظ ابن حجر عمل المولد النبوي هو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي- ﷺ- قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، قال الحافظ:... «فيستفاد منه فعل شكر الله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر يحصل بأنواع العبادات كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من نعمة بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم».
المدائح النبوية
وأوضح "ويؤكد الحافظ ابن حجر على ما ينبغي أن يعمل في الاحتفال فيقول:" فينبغي أن نقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة وما كان مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به».
وتابع "ونقل السيوطي عن إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري من كتابه «عرف التعريف بالمولد الشريف» قوله: «إنه صح أن أبا لهب يخفف عنه العذاب في النار كل ليلة اثنين لإعتاقه ثويبة عندما بشرته بولادة النبي عليه الصلاة والسلام. فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي عليه السلام، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنة النعيم. وأنشد الحافظ شمس الدين الدمشقي في كتابه المسمى مورد الصادي في مولد الهادي: إذا كان هذا كافرا جاء ذمه... وتبَّت يداه فى الجحيم مخلدا.. أتى أنه فى يوم الاثنين دائما... يخفف عنه للسرور بأحمدا.. فما الظن بالعبد الذى كان عمره... بأحمد مسرورا ومات موحدا؟"
وقال جمعة: "ويمكن الاستدلال بعموم قوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}، فلا شك أن مولد النبي ﷺ من أيام الله فيكون الاحتفال به ما هو إلا تطبيقًا لأمر الله، وما كان كذلك فلا يكون بدعة، بل يكون سنة حسنة حتى ولو لم يكن على عهد رسول الله ﷺ."
الاحتفال المحمود والمذموم
وأضاف جمعة "ونحن نحتفل بمولده ﷺ لأننا نحبه، ولما لا نحبه وقد عرفه وأحبه كل الكائنات قال ﷺ: «إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس» [رواه أحمد والدارمي وابن أبي شيبة].
وعن الاحتفالات المستحبة قال جمعة: "ومما سبق ذكره من أقوال الأئمة كابن حجر، وابن الجوزي، والسيوطي، وغيرهم، وتبين أن هذا حال الأمة من القرن الخامس الهجري، نرى استحباب الاحتفال بالمولد الشريف موافقة للأمة والعلماء، وأن يكون الاحتفال بما ذكر من تلاوة القرآن والذكر وإطعام الطعام، ولا يتطرق إليه مظاهر مذمومة كالرقص والطبل وما إلى ذلك، ولا عبرة بمن شذ عن هذا الإجماع العملي للأمة وأقوال هؤلاء الأئمة؛ وليس ذلك الاحتفال بكثير على النبي ﷺ الرحمة المهداة حبيب رب العالمين، وفي الختام أذكر قول صاحب البردة:
فهو الذي تم معناه وصورته... ثم اصطفاه حبيبًا بارئُ النَّسمِ
منزهٌ عن شريكٍ في محاسنه... فجوهر الحسن فيه غيرُ منقسمِ
دعْ ما ادعتْهُ النصارى في نبيهم... واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف... وانسب إلى قدره ما شئت من عظمِ
إن فضل رسول الله ليس له... حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفمِ
والله تعالى أعلى وأعلم.