فى بيتنا عبث
أرخى الظلام ستائره، وحل الليل دون نجوم تزين سماءه أو قمر يخترق عتمة طال عمرها على بلد قديم فى بناياته، وقديم فى حواريه، ومتهالك فى إنسانه، فتسربت إلينا «الديابة» بصوتها المخيف. فى هويد هذا الليل الطويل تطال الأشباح عنان السماء، وتطل علينا أصوات تأخذنا إلى درب سحيق من الهوة الكلامية بين امرأة فقدت مروءتها ورجل يبث فينا كل يوم يأسا بحجم الأرض.
غدا أسوأ، ونحن ننبهكم بأنه لا شمس ولا قمر ولا أمل، غدا ستأكلون لحوم البشر والقطط والكلاب، ولن تجدوا جدارا يحميكم من سوءات المستقبل، فلا تتحركوا ولا تعترضوا ولا تحتجوا. عيشوا كما أنتم فى مواقعكم، أو موتوا بهدوء.. موتوا دون صوت ولا ضوضاء ولا قلق، فالوطن يستحق منكم التضحية والوطن بحاجة إلى السكوت.. سكووووت يسكت كل الحضور إلا المذيع المأجور.
ونساء لم تعرفهم بلادى جاءوا من واد غير وادينا، ومن قوم غير قومنا، يبثون فى الناس أخبارا جديدة.. لا يحق لزوج أن يساءل زوجته أين باتت، ولا أين نامت، ولا من ضاجعت، ولا ممن حملت!
المرأة الجديدة وبثوب جديد، المرأة العصرية، اللولبية، الجهنمية، لا بد وأن تحصل على حقوق غابت عنها، وأهم حقوقها أن تعيش فى العراء، دون غطاء، ودون سؤال، ودون شرف.
وأنبياء جاءوا بدين جديد يتوه فى التفاصيل، ويعبث بكل كتاب نزل، وبكل دين نزل، وبكل ملك حل فى قلب واحد من البشر.. أنبياء يشرحون لك عادات الاستمناء والسحاق وإرضاع الكبير. وشاشات تعرض من كل صنف ألفا، ومن كل لون ألفين، ومذيعون بوجوه كالحة، مالحة، غير صالحة، تنبئ بأخبار البورصة وأسعار الدولار وسوق الذهب وسوق النخاسة والبشر.
صناع العبث
وقبل الحين وكل حين يطل عليك رمز في السب لا مثيل له ولا نظير يتحف أطفالنا برخيص الكلام ورخيص الشتم والشخر، ويلعن أمهاتنا وآبائنا وجيراننا وكل قيمة كانت قبل هذا الظلام قيمة.
وأنت وأنا وهو وهى ليس لنا اليوم من هذا الحُلك ملجأ ولا منجا.. لا نور ولا بصيص أمل ولا طريق خال من عبث أصبحت صناعته أهلية، وبقرار نخبوى مريض قد يصبح قانونا حاكما لو تركنا العابثينعلى بضاعتهم عاكفين يسودون الصحف ويلونون الشاشات ويعلقون اللافتات على أعمدة الشوارع بكلام غث وبنبوءات تحمل من البخس ما يجعلها مشانق تهديد ووعيد ووأد لغد كنا ننتظره على الطريق.
لا مهرب اليوم من صناع العبث، فهم يحيطون بنا من كل درب ومن كل اتجاه، ينشرون بضاعتهم ومخدراتهم ومسكناتهم دون فواصل أو استراحات.. هممهم كما لو كانت همم رجال فى حرب تحرير البدن.
وترج الأرض رجًّا وتبث الجبال بثًّا وهم كما هم على بضاعتهم عاكفون يبتاعون شرف النساء ويتاجرون بأحلام الولاد، ويتكسبون قوتهم من كد الصبابا فى بيوت البغاء. هل هذا شعب صاغ للبشر فجرا إنسانيا ابتنى الحضارات؟ وهل هذا مجتمع صك القيم والأخلاق لسكان المعمورة منذ قديم الزمان؟ وهل هذا شعب نحت بأنامل مبدعيه جغرافيا البطولات؟
نعيش فى بلد غير البلد، وفى أرض غير الأرض التى أطعمت العالم وروضت الأنهار واستطالت فوق الجبال وتركت تحت الثرى وفوقه عمارات وبنايات شق على المحدثين تقليدها.
كيف استوطنت فينا غرائز الذل؟ وكيف سكنتنا نوازع الغل؟ وكيف صرنا نتسول غلة كنا المتصدقين بها على إمبراطوريات الأرض؟ كيف أمسينا نرضى بالدنية ونعايش رذائل الفاسدين فينا؟ هل هذا هو الشعب المنادى على العالمين ليقف الخلق جميعا ينظرون كيف نبني قواعد المجد وحدنا؟ كيف تسرب إلينا أراذل القوم؟ وكيف سمحنا بتوطين أخلاق العبيد وعادات العبيد وتراث العبيد؟
إن كان بعد العسر يسر فقد طال بنا العسر، وغاب عنا اليسر، ونحن على قارعة الطريق منهكون، ولم يعد للقوم طليعة من الفرسان.. طليعتنا سبابون لعانون وسبايا يمثلون دور الحرائر، ويفرضون على حرائرنا وازعًا من أخلاق صاحبات الرايات الحُمر.
لمن ينتظر ولمن بيده الأمر.. الخروج من الهوة السحيقة ليس مستحيلا، فقد خرجت أمم من قمقم العبث إلى واحة الجد والكد بقليل من إرادة وصدق فى الإدارة وإعلاء شأن قوم شعارهم العلم والاستنارة.