رئيس التحرير
عصام كامل

"فى المترو".. قصة قصيرة لـ"حسن زايد"

مترو الانفاق
مترو الانفاق

نصب ليل الشتاء البارد خيمته على الكون بقواعده الصارمة، فبدا الشارع خالياً من المارة، وبعض السيارات تمرق غير عابئة بقواعد المرور، وأعمدة الإنارة تلفحها الرياح الباردة فتصيب لمباتها بالنعاس، ولولا واجهات بعض المحلات المفتوحة لتعذر تلمس مواضع الأقدام.

ولتعثرت بقطط الليل التى تبحث عن بقايا طعام تتقوت به أمامها، ومواء القطط المتشاجرة ينهش السكون، أسرعت الخطى فقد كان الوقت متأخراً، ولا بد من اللحاق بآخر مترو، لقد شعرت بالرغبة فى الجرى متخلياً ولو قليلا عن الوقار الذى يقيد حركتى، جريت مسرعاً حتى وجدت مدخل محطة المترو، هبطت السلالم الخرسانية قفزاً، أسلمتنى لممرات فى نهايتها السلم الكهربى المتحرك، ألقيت بجسدى فوق إحدى درجاته، جعل يهبط بى حتى أسلمنى إلى رصيف المحطة، تلفت يميناً ويساراً، أناس يتكورون فوق مقاعد الانتظار طلباً للدفء، وقفت على أطراف أصابعى تأهباً لوصول المترو.
أفرك يدى فى بعضهما محــاولاً طـــرد تفاصيل اليوم من ذاكرتى، إنها متخمة بتفاصيل كثيرة تحول دون الاهتمام بأى أمور أخرى، فزعت من صراخ جرس الإنذار المفاجئ رغم إدراكى لوجوده، استيقظ الجميع من غفوته أو من حلم اليقظة الذى استغرقه، وتأهـب الجـمـيع لقدوم المترو، الذى ترامى صوت هديره إلى المسامع من بعيد، من عمق النفق الأرضى الممتد.
وكلما اقترب اشتد صوت الهدير واندفاع الهواء البارد من داخل النفق، يزحف المترو مسرعاً كثعبان ينقض على فريسة هاربة، عجلاته تعوى تحت وطأة الكوابح التى التصقت بها، فتوقف على أثر ذلك وانفتحت الأبواب، سقط طرف عينى على وجه لم أتبينه مع حركة الأضواء والظلال على الوجوه، اندفعت داخل العربة، واندفع الوجه إلى داخل العربة التالية، استدعى الوجه وجوهاً كثيرة فى حياتى، أفتش فيها عن ذاك الوجه، لعلى أجده من بينها، غاصت ذاكرتى فى ماض بعيد تستحضر صوره، وتمررها أمامى صورة صورة، تلك الصورة شبيهة إلى حد التطابق، صرخت فى نفسى: لا لا ، إنه نوع من الإسقاط النفسى كى تتحقق رغبة قديمة فى رؤيتها، حتما إنى واهم، اختلط على ذهنى الأمر نتيجة إرهاق اليوم، أو نوع من خداع البصر، صحيح أن الصورة صعقتنى كما كان يحدث فى الماضى، شلت أطرافى، إلا أن ذلك لا يعنى أنها صاحبة الصورة، خطر ببالى أن أقطع الشك باليقين حتى يرتاح القلب منى وتهدأ النفس من ثورتها، توجهت وأنا أسمع ضربات قلبى التى غطت على هدير المترو فى اندفاعه إلى الباب الفاصل بين العربتين، اخترقت عينى زجاج الباب الغائم، ودخلت تفتش، تتفحص الوجوه، وجهاً وجهاً، إنها هناك جالسة على أحد المقاعد بجوارها شاب، يصغرها كثيراً، ترتدى إيشارباً يغطى رأسها وعنقها، هممت بالنداء عليها حتى تلتفت نحوى، انحبس صوتى فى حلقى، إلا أن أصداءً تردده ترن فى أعماقى، التفتت كأنها سمعته، نعم هو ذات الوجه، ونفس الإطلالة الساحرة، حية، متحركة، نافذة حتى النخاع.
البحر المحيط استعار عمقه من عينيها التى تنعكس على صفحتها زرقة القبة السماوية، حين أنظر فيهما كأنى أنظر إلى الدنيا بما تحويه من متعة ولذة، وحين تنظر إلى تكفينى نظرتها عن كل نظرات الكون، هزنى أحدهم بيده وهو يهز رأسه مستفسراً، فانتشلنى من نفسى، بدأ هدير المترو يخفت إيذاناً بالتوقف، وهمت صاحبة الوجه بالتأهب للنزول، وقد أمسك الشاب بيدها وتوجه بها فى اتجاه باب النزول، فقررت النزول وراءها حتى أشبع من رؤيتها، وأكلمها، وأسمع صوتها، أسألها عن حبى، هل تذكره ؟ أم أنه قد مات برحيلها بعيداً عنى؟ هل نبض قلبها يوماً بى؟ أم أننى أعيش الوهم؟
انفتح الباب فأسرعت بالنزول حتى لا تضيع منى، جذبنى أحدهم قائلاً: انت أعمى؟ يبدو أننى قد دست على قدمه، فرددت عليه مبدياً شديد أسفى، فإذا به يقول: ربنا يشفى!
لم ألتفت إلى كلامه، لقد سبقتنى إلى السلم الكهربائى وحال بينى وبينها أناس يصعب اختراقهم، فهرولت إلى السلم الخرسانى الموازى، قفزت الدرجات قفزاً حتى ألحق بها، نظرت إليها، كدت أنكفئ على وجهى إثر تعثر قدمى، لملمت شعثى، وأسرعت القفز حتى ألتقيها على رأس السلم، لم تلتفت إلى، ولم تنتبه لوجودى، يبدو أنها لم تتعرف على، لابد أن الزمن قد فعل فى الوجوه فعلته فأحال ملامحها إلى ملامح أخرى مغايرة، وقفت على الرصيف فى انتظار المترو الآخر العلوى، فقررت الاقتراب منها لعلها تتذكر ملامحى، أو تستشعر وجودى بغريزتها حين تهب الذكريات على الخاطر، نظرت اليها بعمق أربكها، لملمت أطراف أهدابها وأسدلتها حياءً، كدت أصرخ فيها، شمرت عن عينيها الجفون الكحيلة ورمقتنى بنظرة عقدت لسانى فامتنع عن الصراخ، تدفقت من عينى آيات الحب والشوق والكثير من الأسئلة المعلقة بلا إجابة ، أستجديها لحظة تطفئ الشوق وتريح القلب قليلاً، وهى تنظر نظرة العجز وقلة الحيلة، لم ننتبه إلى صوت هدير المترو وهو ينسل مسرعاً نحو المحطة، وعجلاته تعوى مع قبض الكوابح عليها، انتبهت فجأة على صوت الشاب الواقف بجوارها وهو يمسك بيدها قائلا: هيا يا أمى!!
فأشاحت بوجهها راغمة وصعدت إلى المترو، وقبل أن تنغلق الأبواب دونها، أرسلت عينيها لتحتضن بداخلى شوق السنين، وأغمضتها على صورتى وأنا أحتضن طيفها بعينين دامعتين، وانغلق باب المترو على قلبى يرافقها إلى حيث لا أدرى، وجعل المترو يشق طريقه داخل ذلك النفق المظلم، ووجدتنى وحيداً مرة أخرى بعد أن انتصف ليل الشتاء البارد.
الجريدة الرسمية