كعوش الذي ولد من رحم رصاصة!
لم يعد الانتماء العروبي والقومي بضاعة رائجة هذه الأيام بعد نجاح المخططات الاجنبية في إشغال كل بلد بهمومه الداخلية وإذكاء روح العرقية والطائفية، وتبع ذلك انصراف الكتابات الصحفية إلى الشئون الداخلية ولم يعد لدينا من هو مهموم بقضايا الأمة إلا قليلا.
ولان مصر كانت ومازالت مهمومة بقضايا الوطن العربى وفى عقيدتها الايمانية أن الأمن القومى المصرى ممتد إلى أقصى نقطة في الوطن العربى شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، بل وخارج ذلك أيضا، ولذلك ظل هناك ايمانا راسخا بعروبة مصر وقوميتها عند كتابها ومبدعيها يعبرون عن ذلك أدبيا وابداعيا وفنيا وثقافيا وصحفيا.
ومازال هناك بعض الكتاب العرب من يسيرون على هذا الدرب حتى الان ومن أجيال مختلفة وإن قل المنحنى، ولا يوجد كاتب أو مثقف عربى حقيقى لا يعرف دور مصر وأهميته، ولايقف الأمر عند ذلك الحد بل منهم من يذوبون عشقا بمصر ولا أريد أن أذكر أحدا حتى لا أنسى الباقين وهم كثر.
لكن منذ شهور فقدنا واحدا من هؤلاء تعرفت عليه عن قرب أثناء زيارته لمصر وقبل ذلك عبر كتاباته في الصحف العربية الصادرة في بيروت والأردن والكويت ولندن وإيطاليا، هو الكاتب الأردنى والفلسطيني محمد كعوش الذي قضى أكثر من 60 عاما في محراب صاحبة الجلالة الذى كان عنوان مسيرته الصحفية هو "الأمل" كما يقول الشاعر والكاتب الأردني يوسف عبد العزيز..
وداع للطيبين
يصف كعوش نفسه بقوله: "أنا من جيل ولد من رحم رصاصة وتسلح بالأمل الذى كان أهم أسلحة الاسكندر المقدوني في فتوحاته، هذا الأمل نعيد انتاجه باستمرار ايمانا بمستقبل أفضل لأمتنا، يتجدد بولادة كل طفل عربى جديد، يطل على الحياة مع إطلالة شمس كل يوم آخر، وسيبقى الأمل معنا لآن لدينا قضايانا في وقت لا يتجدد فيه الزمن أو يتلاشى أو يعود إلى الوراء وبالتالي نحن نرحل، ولكن الأجيال الشابة لا تنسي!
لم يكن حبه لمصر عاطفيا جياشا فحسب ولكنه عقلانيا منطلقا من دورها القومي والعروبي، كان يذوب عشقا في النيل والمقاهى والأزقة والناس.. كان يترك الفندق الخمس نجوم ليقضى معنا الأيام على المقاهى وشوارع وسط القاهرة والسيدة زينب ونقابة الصحفيين.. ألخ، في كل أزمة أو حدث يحترق بنار القلق والخوف على مصر.. في نكسة 1967 وحتى الأحداث إلى صاحبت ثورتى 25 يناير و30 يونيو.
قال لى وللأصدقاء الكاتب الصحفى فتحى خطاب ورسام الكاريكاتير عصام حنفى أنه زار الكثير من دول العالم لكن هنا لا يعتبر نفسه زائرا بل صاحب بلد، وواحد من أهلها البسطاء. منذ تفتح عيناه للحياة عرف محمد كعوش هم الغربة ووجع الاغتراب المحفور في الوجدان منذ طفولته منذ لحظة إجباره على الرحيل من قريته الفلسطينية إلى جنوب لبنان.
أرسل لنا بيانه الأخير بعنوان بيان للأصدقاء كتبه ولم ينشره في حياته وتولت عنه المهمة زوجته الوفية الكاتبة الصحفية هدا سرحان التي تطوف الأماكن التي عاش فيها زوجها أملا في استحضار روحه أو الحديث مع الأصدقاء في كل أنحاء الوطن العربي انطلاقا من أغنية أم كلثوم الشهيرة التي كان يعشقها "ولما اشوف حد يحبك يحلالى أجيب سيرتك وياه ".
يقول في بيانه إلى الأصدقاء: عندما غادرت مبنى الجريدة، غمرنى فرح طارئ وأيقنت أننى لست نادما على شيء وتذكرت محمود درويش حين قال: ما أشد سعادة المرء حين لا يودع أحدا ولا ينتظر أحدا.. لقد أتت اللحظة التي انتظرتها، خمسين عاما لذلك شعرت بالسلام مع النفس بعدما تعبت من توتر الكتابة واختزان الأفكار، كما تعبت من حصار الوقت ورغيف الخبز وخطر الجفاف.. أعترف أننى وصلت إلى الجدار، وضاق الامام وإقترب الماضى يحمل ما بقى من العمر، لذلك تسلحت بالإصرار وقررت حمل كل الوقت الى ساحة إبداع متجددة غنية بحرية التفكير والخيال دون الرضوخ للإرادة الوقت وحصار الكلمات.. ولن أقول وداعا لآن الطيبين معى دائما !!
وصايا كعوش
والحس الانساني غالب في كتاباته ويدعو دائما للتفكير والشعور بالغير: "فكروا بغيركم.. فكروا بهم"، ويستحضر معشوقه محمود درويش دائما وقصيدته "فكر بغيرك وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك، لا تنس شعب الخيام وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك، ثمة من لم يجد حيزا للمنام.. يا ليتني شمعة في الظلام.
ويصر محمد كعوش قبل رحيله أن ينقل للأجيال الوصايا والدروس التي رافقته عبر مسيرته الصحفية كالحلقة في أذنه:
الأولى: من سليم اللوزى في مجلة الحوادث اللبنانية في الستينات من القرن الماضى حين قال له في أول موضوع كتبه: أنصحك حين تكتب قضية سياسية أن تعمل على تحويلها إلى قصة، فالانسان بطبعه يحب القصة.
والدرس الثانى: كان من غسان كنفانى في مجلة الدستور اللبنانية حين قال له: أكتب السياسة بلغة الأدب والأديب.
والدرس الثالث من زهير عسيران نقيب الصحفيين في منتصف الستينات حين قال له: هناك مدرستان في الصحافة الأولى تنحاز إلى السبق الصحفى على قاعدة أن من حق الناس معرفة كل شيء مهما كانت خطورة الخبر على المصلحة الوطنية، وأمن المجتمع والمدرسة الأخرى التي انتمى إليها تتبنى تقديم المصلحة الوطنية على السبق الصحفى إذا شكل نشره تهديدا للأمن الوطني أو شكل خطر على البلاد، والحقيقة أننى إنتميت إلى هذه المدرسة طوال مسيرتى المهنية.
وتسكن أمامه الجملة التي تصف عقيدة الاحتلال الصهيوني لفلسطين ويعملون على تنفيذها بدأب وإصرار وهى "الكبار يموتون والصغار ينسون" بمحاولات تغيير الجغرافيا وتزييف التاريخ وطمسه.
يصف كعوش ذاكرة طفولته قبل نكبة 1948 الذين اختطفتهم النكبة إلى المنفى بأنه الطفل الذي مشي على الشوك والحصى حافى القدمين على درب الألم من قريته ميرون على قمة جبل ميرون الفلسطيني إلى بلدة بنت جبيل جنوب لبنان.. كنت أمشى مع الجموع وأنظر إلى الوراء فأرى قريتى تبتعد عنى أو أنا أبتعد عنها..
كنت أرى أعمده الدخان تتصاعد من البيوت القديمة نتيجه قصف جوى من طائرات ثلاثة وقد رافق القصف هجوم برى استخدمت فيه المدافع والمصفحات التي واجهت مقاومة شرسة اضطرت العصابات الصهيونية إلى التراجع بسبب طبيعة القرية الجبلية.. حتى نجحت في النهاية في احتلالها بعد مجزرة بشعة لقرية الصفصاف المجاورة..
وعندما أيقن الجميع أن ميزان القوى لصالح العصابات الصهيونية المدعومة من قوات الانتداب البريطاني قرروا ترحيل النساء والشيوخ والأطفال وكان منهم.
ويصف كعوش رحلته كطفل الطريق إلى قرية بنت جبيل جنوب لبنان بالموحش والطافح بالخوف والقلق والمفاجأت: مشيت مع الجموع في موكب الهجرة إلى المجهول، لم اشعر بالألم لان الخوف كان طاغيا.. ولم يكن يدرى وقتها أن لبنان ستتحول من دولة الممر إلى دولة المقر ولو مؤقتا !!
مات كعوش موجوعا من الغربة ومن الوحشة اللتان تحولتا إلى سرطان نهش الجسد، ولكن لم ينجح في الاقتراب من الروح !!
yousrielsaid@yahoo.cim