رسالة إلى أدعياء العقل
العقل في مملكة الإنسان هو أداة الفهم والإدراك والقياس وبه يزن الإنسان الأمور ويدركها وهو مناط التمييز والخلق والإبتكار، وهو نعمة الله التي خص بها الإنسان ومناط التكريم، وبه يعطي الإنسان وبه يحاسب وفيه مكمن سر التفاضل بين الناس في الدنيا والآخرة، كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله عندما سألته أم المؤمنين السيدة عائشة عليها السلام قائلة: بما يتفاضل الناس يا رسول الله ؟ قال: بالعقل يا عائشة. قالت: ذاك في الدنيا. فبما يتفاضلون في الآخرة ؟ قال: بالعقل أيضا. قالت: كيف؟ قال: يحاسب الناس على أعمالهم وهل عمل الناس إلا على قدر ما عقلوا..
هذا وليس هناك أفضل عند الله تعالى من العقل. وقد جاء في الخبر، أن الله تعالى حين خلق العقل. قال له أقبل. فأقبل. ثم قال له أدبر فأدبر -إشارة إلى طاعته وولاءه لله عز وجل- فقال له سبحانه: ما خلقت خلقا أحب إلى وأكرم منك فبك أعطي وبك أحاسب.
هذا والعقل هو قائد ركب مملكة تكوين الإنسان فهو الذي يقوده إلى الهدى أو إلى الضلال وهو الذي يقوده إلى الجنة والسعادة الأبدية أو إلى العذاب والشقاء والنار. فالعقل الرشيد الذي لا تخالطه أهواء النفس ولا تسيطر عليه الغرائز والشهوات ولا يميل إلى نزغات الشيطان والذي لا ينقاد خلف غواية الشيطان ووسوسته وتزيينه وتغريره لا شك أنه عقل راشد رشيد، وأنه سوف يقود صاحبه إلى الإيمان بالله تعالى وطاعته وإتباع هدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويقوده إلى السلامة والسعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة والعكس صحيح.
تصرفات العقل
كلنا ندعي العقل ونظن أننا عقلاء بل يظن البعض منا أنهم أعقل العقلاء. وعندما ننظر إلى حال غالبية البشر ونرى ما آل إليه حالهم من سوء حال وإنقيادهم إلى الدنيا وتكالبهم واقتتالهم عليها وإتباعهم لأهواء أنفسهم وشهواتهم. واعتلال قلوبهم بحب الدنيا. وعندما ننظر إلى أحوالهم السيئة من ابتعادهم عن الله والغفلة عن ذكره ونبذ كتابه الكريم والإعراض عنه وهجر سنة وهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وما نتج عن ذلك من تفشي الفحش والمجون وانتشار الرذائل وما نراه من عري وخلاعة وفحش وضياع لمكارم الأخلاق وفياب القيم الإنسانية النبيلة وغير ذلك. نتسائل: أين العقل يا مدعي العقول؟
أين العقل يا من تعلمون أنكم في دار الإبتلاء والإختبار. في دار مآلها إلى فناء.. وأنتم لها مفارقون وعنها راحلون وإلى قبوركم سوف تزفون ويوم القيامة ستحشرون وبين يدي ربكم واقفون ومحاسبون؟ أين عقولكم. أين عقولكم؟ تؤثرون دنيا فانية على دار الخلد والتنعيم. تحبون العاجلة وتزرون من وراءكم الآخرة. والله تعالى يقول: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)..
كيف لصاحب عقل ومدعيه أن يحارب الله تعالى بمعصيته إياه؟ وكيف لصاحب عقل ومدعيه أن يسفك دما بريئة بغير حق؟ وكيف لصاحب عقل أن يفارق هدى الأنبياء ونهج الأتقياء وينقاد خلف الأهواء والشهوات؟ وكيف لصاحب عقل أن يكذب ويسرق ويخون ويحسد ويحقد ويبغض ويطمع فيما عند غيره ويظلم الناس ويأكل حقوقهم؟ وكيف لصاحب عقل ومدعيه أن يعتدي ويجور ويغش ويضلل ولا يتقي الله تعالى في خلقه؟
كيف لصاحب عقل ومدعيه أن يجزع من ابتلاء الله تعالى ويسخط على قضائه؟ وكيف لصاحب عقل ومدعيه أن لا يقابل نعم الله تعالى بالشكر والإقرار بفضله عز وجل؟ وكيف لصاحب عقل ومدعيه أن يتعالى على الخلق ويتكبر ويتجبر؟ وكيف وكيف وكيف؟
يا سادة إن العقل نعمة من أعظم نعم الله تعالى علينا فيه نحاسب، فلنجتهد في تزكية النفوس وتطهير القلوب حتى تظل عقولنا محفوظة راشدة نورانية رشيدة، ولكي يتحقق ذلك علينا بطرح حب الدنيا من قلوبنا وعلينا بالرجوع إلى شريعتنا الغراء وهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وعلينا بمجاهدة أنفسنا ومخالفة هواها وكسر شهواتها. حتى تخلوا العقول من دخنة أهواء النفوس الطامسة لنوره وحتى يلتقي نور القلب بنور العقل ونصبح من أهل نور على نور.. هدانا الله تعالى وإياكم إلى سواء السبيل وجعلنا من أصحاب العقول الرشيدة..