رئيس التحرير
عصام كامل

النهضة العَزْلاء


ليس نقيض النهضة العزلاء، نهضة مسلحة تقليدياً أو نووياً، بل تلك التى يكون الوعى سيفها والذاكرة الوطنية درعها، وأى طرف يزعم النهضة عليه أولاً أن يعود إلى الوراء قرناً وبضعة عقود، كى يستقرئ مرجعيات تلك النهضة وأسباب إجهاضها وبالتالى انحسارها، فليس هناك فى التاريخ من يستخدم مفتاحه لأول مرة، حتى لو كان سحرياً أو من ذهب، وهذا ما نبه إليه مؤرخون من طراز سانتيانا عندما قال إن التاريخ لا يرحم الجاهلين بسيرورته ومجراه، لأن من يجهل الماضى سوف يعيد أخطاءه.


وإذا كنا نذكر الآن بنهضة العرب فى القرن التاسع عشر، فذلك لأنها لم تكن عزلاء من سلاح النقد، وحين نقرأ اليوم وبعد أكثر من قرن ما كتبه الكواكبى فى طبائع الاستبداد وأم القُرى، وما اجتهد به محمد عبده وآخرون نشعر أن أىّ مشروع نهضوى أو يزعم ذلك، عليه بدءاً أن يتسلح بالنقد الذاتى ومراجعة التجارب التى انتهت إلى إخفاق أعقبه إحباط، وكان مشروع نهضة العرب يخوض حرباً مزدوجة إن لم تكن متعددة الخنادق، فثمة احتلال واستبداد وبينهما تيارات تقليدية محافظة ترى النموذج الكامل الذى يقاس عليه فى الماضى الذهبى، غير مكترثة بما تطور وتغير من أنماط التفكير والسلوك، تبعاً لما أحدثته انقلابات “كوبرنيكية” علمياً واجتماعياً وثقافياً، فالماضى شحنة ودرس وذاكرة، لكنه ليس امتداداً قسرياً إلى المستقبل بحيث يكون المستقبل مجرد ماضٍ يعاد إنتاجه بلا تنقيح أو حذف وإضافات، وكل نهضة لابد أن تقترن بالتنوير، فهو توأمها التاريخى إن لم يكن حاضنتها التى تفقس فيها البذور سواء كانت بذور أفكار أو تبشير بتخطى الشروط التى تحاصر واقع البشر، وتوشك أن تتحول إلى قدر بسبب الإفراط فى الكسل الذهنى والركون إلى المُسلّمات.

النهضة بهذا المعنى مغامرة لابد أن تتوفر لها الأسس أو العناصر الخمسة التى طالما تحدث عنها فلاسفة ومؤرخون منهم ألفرد وايتهد، الذى جعل العنصر الأول للمغامرة إعادة قراءة ما فات لاستلهام ما لم يفقد صلاحيته منه، وما يقبل التأويل أو التطوير . وأحياناً يبدأ التنوير من ثُقب إبرة حسب تعبير د . رفعت السعيد فى دراسته عن كوكبة الرواد من النهضويين العرب، لأنه محاصر، ومحظور الاقتراب من خطوطه الحُمر، وإذا بدأ التنوير على استحياء وتخلى المبشرون به عن معظم أفكارهم لتمرير القليل منها فإن الخسارة عندئذ ستكون محتمة، للكثير والقليل على السواء.

فالمسألة ليست انتقائية أو استخدام غربال لفرز القمح من الزؤان، فالتاريخ وتجاربه الكبرى لا تقبل مثل هذه الثنائية.

حتى الأفراد، أو من يسمون أبطال التاريخ ليسوا قمحاً خالصاً وليسوا أيضاً زؤاناً، والقراءة الجدلية هى البديل الأعمق والأجدى للقراءات الأفقية التى لا ترى من الجبال الغاطسة فى المحيط غير ما نتأ من قممها، وحين يحدث مثل هذا القصور فإن الارتطام أيضاً يصبح محتماً كما فى أمثولة تايتانيك.

ما من نهضة عزلاء من وعى العصر، ومن أدوات الإقامة فيه تستطيع مغادرة صدفتها الثقيلة كالسلاحف، فالمسألة ليست فى شعار النهضة بل فى منطقها الجدلى وفى القدرة على العبور بها من التأنق النظرى إلى التطبيق.


نقلاً عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية