رئيس التحرير
عصام كامل

"سلسلة فذكر": "الهدايا"


كلما نظرت إلى الكعبة المشرفة المرسومة على سجادة الصلاة دعوت الله أن يرزقني زيارتها، ولكنى كنت أندهش لبكاء جدي عند رؤيتها على التلفاز وخاصة في يوم عرفة.

كان رده الدائم على سؤالي له عن سبب بكائه أن يجيبني: "إنه الشوق يا حمزة"، نريد جميعا أن نزور بيت الله، ولكن بكل هذا الشوق لا أدري من أين يأتي ولماذا.. دائما ما يتهمني والدي بقسوة القلب والبعد عن الله.. لا أدري أين دليل هذه الاتهامات فأنا أصلي الفروض جميعها وأصوم ولا أغضب الله في شيء.
لم يكن في المنزل أحد قريب لي مثل جدي حتى أمي لم اشعر أنها تفهمني، فهي كتلة من الحنان تمشي على الأرض وإخوتي أيضا ولكن عندما تضيق بي الدنيا لا أجد غير جدي أعز صديق لي أشكو له وأتحاور معه.
الغريبة أنه كان يشعر بي دون أن أنطق بأي كلمة فيكفي أن ينظر في عيني ليشرح كل ما بداخلي، ودائما ما كان مع الشرح أجد حل المشكلة مقدم إلى بطريقة بسيطة.. أندهش كيف لم يأت إلى ذهني حلوله البسيطة والتي دائما ما كانت في محلها.
ظللت أنظر إلى السجادة الخاصة به كأنني أراها لأول مرة مع أنني إحضرتها إليه عند عودتي من العمرة، ولكن اليوم كان الأول لصلاتي عليها.. فقد افتقدته كثيرا لا أدري كيف ذهب عن دنيانا هكذا فجأة.. أعلم أن الموت حق علينا ولكنك لا تراه فيمن تحب ومهما كان مبلغ إيمانك لا تستطيع إبعاد هذا الحزن عن قلبك.. فهو ألم شديد يأتي إليك فجأة، يسري في كل كيانك، لا تشعر بأي شيء غيره فهو أقوي بكثير من أي مخدر أو مسكن.. فبتأثير الحزن يمكنك أن لا تري من حولك ولا تشعر بأحد وأكبر آفة للحزن هو عدم اتصالك بالحياة.. فتقول كلام ينم عن رضائك بقضاء الله وقدره ولكن الحقيقة لا تجد بداخلك سوي غضب شديد.. لا يمكنك أن تري من أين جاء كل هذا الغضب ولكنك تعلم حقيقة واحدة أنك يجب أن تخرجه من داخل نفسك بأي وسيلة وفي وجة أي شخص.. حاولت تخفيفه بقراءة القرآن والدعاء ولكن يظل الحزن كما هو لا يتغير.. بعد القراءة مباشرة أشعر بقليل من الراحة ولكن الحقيقة أن الحزن يظل داخلي قوة كاسحة لا أستطيع إبعادها.. ولولا إيماني بالله لكنت حاولت الرقود بجانبك في قبرك ولكن الله هو من حدد أعمارنا وحياتنا.. 

آه يا جدي هم بضعة أيام ولكنى أشعر بهم سنين طوال ما زلت أشعر بك في المكان.. ما زلت أسمع صوت تسابيحك دبر كل صلاة.. ما زلت أراك تخفف عني وتنصحني وتقف بجانبي.. أتحدث إليك كثيرا ولكنك لا تجيب.. كم اشتقك لأحاديثنا.. كم أتمني أن يرجع بي الزمان كي أجلس معك كثيرا وأسألك عن كل ما يؤرقني وأنهل من علمك وخبرتك.. دائما ما يراني أصدقائي العاقل الناصح بينهم ولكنهم لا يدرون أنك أنت البطل الحقيقي لكل ما كنت اتفوه به..


أخشى بعد أن حسدوني على حسن خاتمتك أن يكتشفوا أنني لا أصلح لنصحهم مثل ذي قبل.. فأشعر أنني لا أستطيع الصمود في هذه الحياة بدونك.. فقد انحنى ظهري برحيلك.. يقولون إنه عيب على الرجل أن يبكي.. أراهم جميعا يستطيعون البكاء على فراقك ولكن عيناي لا تذرف الدمع.. نصحوني بالبكاء حتى أخرج طاقة الحزن بداخلي ولكن لا أستطيع.. ما استطعت فعله هو المبيت في غرفتك وحدي، استعمال كل ما يخصك علني أجد السلوى لفراقك، ولكنها زادتني حزنا وشعرت بوحدتي أكثر وأكثر..
أجد صوتا آخر يذكرني بما كنت تنصحني به.. كأنه أنت يتكلم يثنيني عن الخطأ ويدفعني لما فيه خير.. أتذكر نصحك لي دائما بصلاة النوافل عقب كل فرض.. كنت أتهرب منك ومن القيام بها ومجادلتي إننى أصلي ما يطلب منى ولكن الزيادة لا تهم، ولكننى فجأة اكتشفت صحة ما قلته لي فمنذ أن بدأت أصلي النوافل وشعرت براحة أكبر حتى أننى أصبحت أصلي ركعات مخصوصة لك.. فهل تصل؟!.. هل تشعر بها كما قالوا لي؟!.. هل تشعر بالهدايا التي أرسلها إليك من صلاة وصوم وقراءة القرآن؟!.. ليتني أسمع صوتك.. ليتك تأكد وصول هداياي.. علني أجدك في أحد رؤياي تتكلم معي وتحكي عن ما يصلك منى ولكن قبل النوم سوف أصلي السنة كما وعدتك أن أفعل ما حييت.. أعلم أني لم أعدك بها ولم تسمعها منى.. ولكنى قررت أن أواظب على النوافل باقي حياتي.
الجريدة الرسمية