العرب تحت الاحتلال
كانت الصين أول دولة فى العالم تعى خطورة الاختراق الإلكترونى، بينما كان العرب -وما زالوا- آخر من يدرك خطورة الأمر، فظلوا إلى يومنا هذا مفعولًا بهم ضربًا واختراقًا وسيطرة. ولعل الظرف الذى عاشته الصين قديما جعلها أول من ينشئ نظاما للتواصل الاجتماعى الإلكترونى مستقلا تماما عن الغرب الذى يعيث فى الفضاء الإلكترونى احتكارا واختراقا وهيمنة.
ربما لأن الصين قارة متكاملة جغرافيا وسكانيا وسياسيا، فكانت الأجدر باتخاذ كافة التدابير التى جعلتها بمنأى عن فكرة الاختراق التى شاهدنا أبهى صورها فى الحرب الروسية الأوكرانية.
استخدم الغرب كل إمكاناته الفنية والإلكترونية لاختراق الداخل الروسى، واستخدمت في المقابل روسيا كافة إجراءات المنع والحجب فى مواجهة الغرب دون أن تهتم بما يمكن أن يقال حول الحريات وغيرها من مبادئ تكسرت تماما أمام ضرورات الحرب الدائرة الآن.
وعلى إثر ما جرى بين روسيا والغرب بدأ العالم يتنبه إلى خطر ترك الفضاء الإلكترونى مستباحا لهيمنة شركات غربية تحتكر كل شيء وتستخدم كل إمكاناتها التكنولوجية فى عمليات اختراق وصلت إلى تفكيك الهوية الحامية لأى مجتمع. شظايا المعركة الإلكترونية أثبتت نجاح الحل الصينى الذى بات بعيدا تماما عن فكرة الاختراق باستقلاله التام عن الشركات الغربية العملاقة من عينة (تويتر، وفيسبوك) وغيرهما من أدوات السيطرة الخطيرة.
اختراق العقل العربي
العرب بكل إمكاناتهم المادية والفنية غير قادرين على استيعاب ما يجرى الآن على الساحة العالمية، دون نقاش لهذا الخطر الذى لم يعد بعيدا عن الفهم والاستيعاب. يستطيع فيسبوك وحده تحقيق انتصارات مذهلة ضد أي دولة دون أن يطلق رصاصة واحدة.. الصواريخ الإلكترونية أكثر خطرا من أعتى صواريخ الحروب التقليدية.
فيسبوك يستطيع أن يحدد اهتمامات الشعوب ويغيرها إن أراد، ويمكنه أن يؤثر فى رغبات الجمهور، وبأدواته يصبح قادرا على نشر حالة الإحباط داخل أي مجتمع. ومن خلال قدرات موقع التواصل الاجتماعى وحجم المعلومات المتوفرة لديه يستطيع أن يخترق العقل البشرى ويدخل فى شرايين الشعوب ويمهد لأى قيم مهما كان خطرها.
والمتابع لمعركة دونالد ترامب، الرئيس الأمريكى السابق، مع تويتر يدرك خطر المسألة وقدرة هذه الشركات على تحييد الجماهير أو إدارة الصراعات بشكل مرعب. وما يزيد الطين بلة أن الذكاء الاصطناعى أصبح يمتلك من القدرات ما يفوق التخيل والتصور، ويمكنك وأنت على حسابك أن ترى هذه الحقيقة واضحة بظهور منتجات أو أفكار عليه لمجرد أن متابعته لك جعلته يدرك نوعية رغباتك واهتماماتك، ومن ثم يتيحها أمامك بكل سهولة.
تستطيع هذه الشركات أن تقرأ أفكارك وتحدد لك موقعك وما يمكن أن تقرأه أو تستهلكه أو تتعاطاه دون إرادة منك ودون قدرة على مواجهته.. قتال ناعم إلى حد التسمم! وأمام حالة التردى فى التعليم العربى وأمام حالة الوهن الثقافى وأمام الشعور بالدونية يصبح من السهل على الأفكار التقنية المتطورة أن تمارس سيطرتها على شعوب بأكملها.
إن مراحل بناء الإنسان العربى وما تتعرض له من إهمال وتردٍّ تجعل من هذا الإنسان مشروع عميل وخائن دون أن يدرى، فالأفكار العابرة من خلال تلك الشركات أخطر من القنابل الذرية. القنابل التقليدية تقتل الناس وتحرق الأرض، بينما القنابل الإلكترونية تسيطر على الإرادة الجمعية للشعوب، ويمكنها تمرير أفكار وقيم أخطر على الدولة الوطنية من الاحتلال التقليدى.
حالة التغريب وتوهان الهوية فى المجتمعات العربية ليست إلا نتاجا طبيعيا لحالة الاستسلام وإهمال الفضاء الإلكترونى وغياب مشروع عربى بديل يمكنه أداء دور تلك المؤسسات الغازية، والتى لم يعد غائبا عنا خطرها الداهم داخل كل بيت عربى. لن يسلم وطن عربى واحد من حالة السيطرة الكاملة إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ولن يحتاج الغرب إلى جيوش وأسلحة وأموال طالما أن الاحتلال وصل إلى العقل العربى.