عاطف فاروق يكتب: فضيحة أخلاقية داخل هيئة قضائية
من أين نبدأ تلك القصة التي تجعل الحليم حيرانًا، فلا تدري من الظالم ومن المظلوم، ومن الذي أساء وظلم، ومن الذي بغى واتهم الآخرين بما ليس فيهم، إنها واقعة مؤلمة، تارة لما تضمنته من وقائع ماسة بالشرف، وتارة لأنها وقعت بين من يتقلدون المناصب الهامة، ويضع المجتمع بين أياديهم مصائر الناس، وجاء الحكم ليكون عنوان الحقيقة، ويقطع الشك باليقين
يتساءل العقل البشري كلما قرأ نصًا، لماذا أقرأ هذا النص؟، وتطفو على السطح إحتمالات سبب كتابة هذا النص، ونحن في خضم موضوع اليوم نسوق للقاريء نصًا يُخاطب عقله الواعي، ويناشده أن يتحصن بما في هذا النص من دروس هامة، وقد آثرنا ألا يشوب ما نكتب تلميحٌ أو تصريحٌ حول أطراف الواقعة، حتى يتمكن القاريء من تلقي الرسالة مجردة من الأهواء والإسقاطات التي قد تنحرف بالموضوع عن تحقيق أهدافه، والتي نسوق بعضها في النهاية، فما الذي حدث
وكان المستشار (........) أقام طعنًا أمام المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة ضد وزير العدل ورئيس هيئة النيابة الإدارية طالبًا في ختامه الحكم بإلغاء قرار مجازاته بعقوبة التنبيه كتابة بضرورة الالتزام بما تقضي به التعليمات في هذا الشأن وتجنب الوقوع في مثل ذلك مستقبلًا، وذكر شرحًا للطعن أنه يشغل وظيفة تعادل درجة مستشار وأنه قد صدر القرار والذي نسب إليه بمقتضاه ارتكابه الوقائع الآتية:
أصل الحكاية
1ـ إهانة الأستاذة (......) رئيسة النيابة، وذلك بإرسال رسالة إلى الهاتف المحمول الخاص بالأستاذة الشاهدة (......) رئيسة نيابة مضمونها (سفالة اللي إسمها.... زميلته الشاكية).
2- قيامه بالتلويح باليد في وجه زميلته رئيسة النيابة بإحدى طرقات النيابة متلفظًا بعبارات غير لائقة مضمونها (ردي حيوصلك في أقرب وقت).
وأضاف المستشار عبر تقرير الطعن أن التحقيقات انتهت إلى إتهامه بالخروج على مقتضيات وظيفته ومخالفته للمادة (20) من تعليمات النيابة الإدارية، وأوقعت به الجزاء، وينعي هذا الجزاء الصادر ضده بمخالفته القانون لقيامه على وقائع كيدية، وتحقيقات شابها القصور الشديد والإخلال الجسيم بحقوق الدفاع، لأسباب حاصلها سبق قيام زميلته الشاكية المزعوم التعدي عليها لفظًا وتلويحًا بتعديها عليه وإحالتها للتحقيق وصدور قرار التفتيش بمجازاتها لثبوت المخالفات المنسوبة إليها في حقها والتي منها ترويجها للشائعات ضده.
كما أنه لم يتمكن من إبداء دفاعه بالتحقيقات، وحيل بينه وتسلمه مذكرة التحقيق الصادر بناءً عليها قرار مجازاته، وأن المخالفة المدرجة بالتنبيه إهانته زميلته بإرسال رسالة sms من هاتفه المحمول للهاتف المحمول لزميلته الأخرى (الشاهدة)، وبمطالعته التحقيق تبين أن التحقيقات لم يرد بها رسالة sms ولكنها رسالة من تطبيق الماسنجر، ومن اللاب توب وأن المحققين اللذين أجريا هذه التحقيقات حققا بشكل غير مهني مع شهوده (عضوي الهيئة) ورفضا سماع باقي الشهود (منهم السكرتير) وتعسفًا في التعامل معه.
تنبيه مسلكي
وقالت المحكمة: إن النيابة الإدارية أصدرت القرار بتوجيه تنبيه مسلكي للمستشار الطاعن لما نسب إليه من إهانة زميلته رئيسة النيابة، وذلك بإرسال رسالة مكتوبة بواسطة هاتفه المحمول إلى الهاتف المحمول الخاص بالشاهدة (رئيسة نيابة) مضمونها بحصر اللفظ عبارة (سفالة اللي اسمها....) وذكر إسم زميلته، وقيامه بالتلويح باليد في وجهها بإحدى طرقات مقر عمله متلفظًا فيها بعبارات غير لائقة مضمونها بحصر اللفظ عبارة (ردي حيوصلك في أقرب وقت وشوفي أنتي بتعملي إيه مع سكرتيرك).
وأكدت المحكمة الإدارية العليا أن المخالفة الأولى ثابتة في حق الطاعن ثبوتًا يقينيًا وفقًا لإقراره بالتحقيقات، فقد سأله المحقق "ما قولك فيما ورد بالشكوى المقدمة من زميلتك، فأجاب بما هو نصه (بالنسبة للواقعة الخاصة بالمراسلة الإلكترونية على الأكونت الخاص بالأستاذة الزميلة فذلك تم عقب ثلاثة شهور من سماعي إشاعات تمس سمعتي وإن وصلت لأهل بيتي إلى الإنفصال رغم زواج دام خمسة عشر عامًا).
كما قرر كذلك علي لسانه بمحضر التحقيق بما هو نصه: أنه عند إقراري بإرسال الرسالة للأستاذة الشاهدة لم أضمنها أي كلمة مسيئة، حتى أن كلمة سفالة الواردة بالرسالة لم أوصف بها أيا من الزميلتين وإنما وصفت الكلام الذي قيل في سمعتي، فلم أقصد منه المعنى المتعارف عليه مجتمعيًا وإنما المعنى اللغوي الوارد بالمعجم وهي الندالة أو الخساسة أو السفاهة، وقدم صورة ضوئية مطبوعة من الحاسب الآلي لتأييد لأقواله.
هيبة الوظيفة القضائية
وشددت المحكمة على أن مجرد تلفظ الطاعن بالكلمة سالفة الذكر ونعت زميلته بها ينطوي على خروج صارخ على مبادئ الأخلاق والأصول والقيم الاجتماعية والآداب العامة بالنظر لما تعنيه هذه الكلمة بمعنييها اللغوى والمجتمعي علي السواء من حط وتحقير وتقليل من شأن زميلته التي ألمح إليها بهذا اللفظ، لا يتناسب وكرامة وهيبة الوظيفة القضائية التي يشغلها ومكانة الهيئة التي ينتمي إليها.
وعن المخالفة الثانية المنسوبة إلي المستشار والمتمثلة في قيامه بالتلويح باليد في وجه زميلته الأستاذة "رئيسة النيابة" بإحدى طرقات النيابة المذكورة متلفظًا فيها بعبارات غير لائقة مضمونها بحصر اللفظ عبارة "ردي حيوصلك في أقرب وقت وشوفي أنتي بتعملي ايه مع، سكرتير النيابة فهي ثابتة في حقه كذلك ثبوتًا يقينيًا على نحو ما شهد به ثلاثة من زميلاته العضوات بهيئة النيابة الإدارية، وهن بدرجة وكيل نيابة من الفئة الممتازة.
وقررت الشاهدة الأولى، بأنها شاهدت وسمعت المستشار يردد بصوت مرتفع عبارة (هتشوفي.…) مرددًا إسم السكرتير، وموجهًا حديثه لزميلته الشاكية رئيسة النيابة، وأنها سمعت ذلك من خلال نافذة مكتبها المُطلة على الطرقة التي كان يسير فيها المذكور، وقررت العضوة الثانية، أنه حال تواجدها بحجرة مكتب سابقتها سمعت المستشار خلال مروره بالطرقة يردد عبارة (شوفي كنتي بتعملي معاه إيه).
اسم السكرتير
وأفادت العضوة الثالثة بسماعها المستشار مرددًا عبارة (شوفي كنتي بتعملي أية مع) مرددًا إسم السكرتير، أو "عملتي أية مع...."، وأجمعت الشاهدات علي أن الحديث كان موجهًا لزميلتهن الشاكية بقصد الإساءة إليها، وأن الأخيرة كانت بمكتبها عقب سماعها هذه العبارة غاضبة مما سمعته.
أكدت المحكمة إنه ولئن كان هناك اختلاف في تحديد نص العبارات التي سمعهتا الشاهدات بإستثناء الأخيرة التي أفادت بسماعها العبارة المنسوبة للطاعن بوضوح، بيد أن شهادتهن لم تخرج عن مضمون العبارة المشينة محل المؤاخذة، سيما وأن عدم تطابق الألفاظ والأقوال لا ينفي إتحاد مضمونها.
والمحكمة تطمئن إلي صحة ما جاء بشهادة الشاهدات الثلاثة وتأخذ بها، ويستقر في وجدانها إرتكاب الطاعن المخالفة المنسوبة إليه بتوجيه العبارة النابية في حق زميلته بالمخالفة للواجب الوظيفي الذي يحتم عليه الالتزام بجادة الأخلاق، وأحترام الزملاء والحفاظ علي هيبة وكرامة الوظيفة القضائية والهيئة التي ينتمي إليها.
النيابة العامة
وتطرح المحكمة ما دفع المستشار المخالفة عن نفسه بالتحقيقات في يوم تلقي اتصالًا هاتفيًا من والد سكرتيرته غاضبًا وأخبره بفتح الإشاعات من جديد كما أبلغته ابنته، والإشاعات المعنية الإدعاء بوجود علاقة بين الطاعن وسكرتيرته، وقال له والدها (معاليك لو مش هتجيب حق بنتي هروح أشتكي بالنيابة العامة وأجيب حقها) فأجابه المستشار قائلًا: أنا مش عارف أجيب حقي ولا حق بنتك، وقبل ما تروح النيابة العامة تعالى قابل المدير واشتكى له.
وبالفعل حضر وتقابل مع المدير وحدثت مشادة بين والد السكرتيرة والمدير لإصرار الأول علي رفع الشكوى المقدمة منه ضد المستشارة الشاكية إلي التفتيش حتى إحتدم الخلاف، فطلب المدير من المستشار مغادرة المكتب فقام بتنفيذ ذلك وفي أثناء نزوله للدور الأول تقابل مع زميلته (الشاكية) ولم يلوح بيده لوجود تليفون المحمول وهو تاب كبير الحجم وجراب نظارة، وعقب ذلك قال لها "انتظري شهادة السكرتير" وأنه يقصد من ذلك طلبه شهادة المذكور، بإعتبار أن الأخير قال له عن وقائع تمس المذكورة وأنه علي إستعداد للشهادة بها إذا طلب منه ذلك.
وشددت المحكمة على أن المحقق أطلع السكرتير علي ما أورده المستشار، والذي أفاد بعدم صحة ما قاله المستشار في هذا الشأن، بل أشاد بخلق وسلوك رئيسة النيابة الشاكية، كما استطرد قائلًا، أن الطاعن حرضه ضد الشاكية وطلب منه الادعاء عليها بوجود علاقة شخصية بينهما، وأنها تتبادل معه صورًا ورسائل على الموبايل وغيرها من الوقائع المكذوبة التي تنال من سمعتها ومسلكها الوظيفي، وأن الطاعن عرض عليه مقابلًا لذلك مساعدته في إثبات براءته في واقعة سرقة حدثت بمقر عمله.
واختتم أقواله بأن المستشار ضغط عليه ليحرر له إقرارًا بحسن سلوكه، وفي ضوء ما تقدم تبين إفتقاد الطاعن الحنكة في التصرف، والثبات الانفعالي في المواقف والتي يتعين علي عضو الهيئة القضائية التحلي بها وعدم التخلي عنها تحت أي ظروف، وأن الواقعة الأخيرة التي أدلى بها الشاهد (السكرتير) جديرة بذاتها حال ثبوتها في حقه بمؤاخذته عنها، فأصدرت المحكمة حكمها برفض الطعن.
كانت هذه هي كلمة الفصل في هذه الواقعة الخطيرة، ليعلم القاصي والداني أن القضاء يُطهر نفسه بنفسه، وأنه لا أحد فوق القانون، وأن هذه الواقعة هي الإستثناء من الأصل الذي يوقن به الجميع، وهنا يأخذ الجميع درسًا هامًا عنوانه "قضاء مصر بخير".