د. ياسمينا شاهين تكتب: الطبيب والمريض.. أزمة ثقة أم واقع فارض للسيطرة
منذ نعومة أظافرنا كمجتمع ناشئ، لا نسمع في مجتمعنا أكثر من جمل:
"هذا الطبيب ليس مؤهلا"
"هذا الطبيب يستغل المرضى"
"هذا الطبيب غير أمين على مهنته"
"هذا طبيب جاهل"
"هذا مريض مستغل"
"هذا مريض غير متحمل للمسئولية"
"هذا مريض شكاء"
"هذا مريض مبالغ"
"هذا مريض مدعي !!!"
وينهمك كلا الطرفين في إثبات وجهة نظره والدفاع عن مصالحه، بدلا من الانشغال ولو بدقيقة واحدة في ماهية الأمر وخطورته وبالتالي لا طبيب يداوي ولا مريض يداوى ولا مرض ينتصر عليه دواء !!.
وتستمر هذه الحلبة من الصراع اللامتناهي واللامنطقي بين الطبيب والمريض حتى أصبح ضحية هذه الحلبة هو المرض نفسه !! .
أينعم، هذا المرض الذي يعد بمثابة الجاني أصبح بجانب هذين الطرفين ملاكا بريئا في حاجة لمن يدافع عنه ويستمع إلى صوته كي يفصح ويتحدث عن سببه !!.
حقا، وضع مثير للضحك والبكاء في آن واحد !!.
وضع يبرز انهيارا تاما لكل مبادئ ومعاني الثقة والطمأنينة بين المريض والطبيب.
"الثقة" التي تعد قمة واجبات المهنة وجزء لا يتجزأ من قسم الطبيب وأول ما يبحث عنها المريض كي يستعيد صحته مرة أخرى بعد إرادة الله.
ويزداد تفاقم المشكلة عندما يتم تصنيف تخصصات الطب طبقا لدرجات الثقة !!، فتجد على سبيل المثال تخصصا "كتخصص النساء والتوليد "، تصنف فيه خبرات الطبيب ومهارته طبقا لنوعه!!.
أهو ذكر أم أنثى؟!!
*فإن كان ذكرا، تلد عنده السيدة بطمأنينة ولكن من العيب الشديد أن تتابع عنده حملها.
*وإن كانت أنثى، فهي المنوط بها المتابعة وفقط دون السماح لها ولو بإجراء مجرد "غرزة جراحية"!
فهي امرأة، إذن ضعيفة وبالتالي لا يمكن الثقة في مجرد حتى حملها لمشرط الجراحة !!.
ويزداد الذهول، عندما تزداد هذه المعتقدات و التطورات تناسبا طرديا مع التقدم العلمي والتطور التكنولوجي وتعدد وسائل الإعلام وانتشارها.
فكلما زاد التطور، قلت الثقة واختل ميزان الأمانة العلمية.
بكلمة ادعاء، يمكن أن يشطب طبيب من النقابة بعد أن يصبح المدعي عليه قضية رأي عام، وبكلمة فتوى طبية خاطئة، يمكن أن يصبح المريض طريحا للفراش بل وللحياة بأسرها!!
ترى ما السبب؟!
أهو الجشع؟ أم الأنانية؟ أم قلة المعطيات؟ أم كثرة أعباء الحياة ومتطلباتها غير المتناسبة كليا أو جزئيا مع الواقع؟
أهي أزمة انتشار بعض منصات الإعلام الطبي غير المسئول المعتمد على الفتاوى والمكاسب أكثر من العلم والمنفعة؟
أهي أزمة مريض يأخذ بالمظاهر والشهرة دون التحقق مما وراء الأشياء؟.
أهو مجتمع ذكوري بات ولا يزال يهمش قدرة المرأة على تحمل المسئوليات وخاصة فيما يتعلق بالأرواح، حتى وإن ظل يدافع عنها بالشعارات الظاهرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تسعى لإحداث تغييرا جذريا في مجريات الأمور؟!
أهو نقص خبرة ومعرفة وانهيار لمكانة الثقة التي تقوم عليها الإنسانية؟!.
أهو تعرض لتجارب سابقة أصابت أصحابها وخاصة المرضى “بفوبيا التجربة”؟!
أهو، أهي، أهو ،،،،،؟!!!
أسئلة تائهة، بلا أجوبة صادقة تتمتع بالشفافية لتبحث عن حل.
لما لا نعترف بأن الحلول كثيرة، بل ومعروفة عن كثب ومحفوظة عن ظهر قلب، ولكن تحتاج لمواجهة حقيقية وإيمان بأولويتها وتطبيقها فعليا على أرض الواقع دون أن نظلم أو نجور على طرف دون الآخر.
فالحقيقة تقول: إن كلا من الطبيب والمريض "ضحايا " مع اختلاف المواقف والأوضاع والأسباب ومع استثناء شواذ الفطرة الإنسانية السوية الباحثة عن الخير والمحاربة لكل قوى الجهل والشر والاستغلال ببسالة.
فالمريض ضحية المرض، والفقر، والجهل والاستغلال والتجارب السيئة والإهمال الصحي.
والطبيب ضحية الإجهاد الشديد غير المنظم، الاستغلال، ضعف الدخل، كثرة المتطلبات مع ضعف الإمكانيات وعدم توافر الحلول، ضعف ثقة المريض به، وقوعه دوما فريسة للاتهامات والتشويه والمظالم، انصبابه دوما تحت الأضواء، قلة الفرص المتاحة لتطوير نفسه، افتقاره لنظم التعلم المتطورة المعتمدة على الابتكار والتطبيق لا الحفظ والصم.
والكثير والكثير من المواقف والأوضاع التي تشمل الطرفين دون السرد أو الإطالة، فهذا وإن صدقت يتطلب مواضيع ومقالات قادمة حقا للمنافشة، لا مقالة واحده تكفيه لتعطيه حقه.
وعلى أصحاب العقول أن يواجههوا أزماتهم يدا بيد، كي يعبروا هذا الحصن المنيع بأقل الخسائر قدر الإمكان.
وأن يتذكروا دائما أن الخسارة الحقيقية هي خسارة العقل وانهيار المنطق وانعدام الإنسانية وسيطرة الأنانية.
وأن الربح الحقيقي هو حقا ربح المعرفة وبناء أواصل الثقة والحفاظ على "آدمية الإنسانية".