عاطف فاروق يكتب: حكاية عزل قيادي بـ"جهاز المحاسبات" بسبب مأمورياته الوهمية
ما زالت أحكام قضاء مجلس الدولة تكشف عن المبادئ والمعتقدات التي تُشكِل أخلاقيات المجتمع، وتُنزِل العقاب الرادع بمن يخرج على هذه المبادئ، ونعيش اليوم مع حكم جديد، يطفو معه على السطح مفهوم أخلاقيات الوظيفة القيادية، وأهمية قضية اليوم في أنها تضع النقاط فوق الحروف بشأن التجاوزات المالية بكافة أشكالها، حين تصدر تلك التجاوزات عن كبار المسؤولين، وهنا كان حكم يؤكد أن القضاء سيضرب بقوة على كل يدٍ تمتد للمال العام.
ومفاجأة اليوم، أن يكشف جهاز رقابي عريق وهو الجهاز المركزي للمحاسبات عن وقائع فساد مالي وقعت بأيدي بعض المسئولين به، فيبادر في قوة وثقة بالنفس بتحريك الإجراءات القانونية ضد المسئولين عن ذلك الفساد، وهي مبادرة راقية، تدعو إلى التفاؤل، ولها دلالات هامة، فنحن نجد في بعض الهيئات المحترمة من يتستر على فاسدين دون مبرر بدعوى الخوف على سمعة الهيئة، ولو أنصفوا لاقتدوا بذلك الجهاز الذي أبى التستر على الفاسدين، وضرب على أيديهم بيدٍ من حديد، لتتخذ العدالة مجراها، ولم تُتَخذ الإجراءات فقط ضد صغار الفاسدين بل طالت كل من تلوثت يده بالعدوان على المال العام.
وقائع القضية رقم 91 لسنة 63 قضائية عليا تتلخص فيما جاء بكتاب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات رقم 3/1540 بتاريخ 19/3/2020 مرفقًا به ملف التحقيق الإداري رقم 22/2018 بشأن ما نسب لكل من مصطفى السيد عبد الحميد، نائب مدير إدارة من فئة (مدير عام) بإدارة مراقبة حسابات الهيئة القومية للبريد فرع الشرقية بالجهاز، ومحمد السيد موسى، نائب أول مدير إدارة من فئة (وكيل وزارة) بالإدارة المذكورة بشأن الشكوى المقدمة ضد الأول والمتضمنة حصوله على مأموريات في حين أنه كان يسافر خلالها إلى خارج البلاد.
خارج البلاد
والمخالفة الأولى المنسوبة للمتهم الأول مصطفى السيد عبد الحميد، نائب مدير إدارة بإدارة مراقبة حسابات البريد فرع الشرقية بالجهاز المركزي للمحاسبات تتلخص في مغادرته البلاد خلال الفترة من 7/9/2016 حتى 3/10/2016، والفترة من 25/10/2016 حتى 6/11/2016، والفترة من 24/11/2016 حتى 11/12/2016، والفترة من 15/2/2017 حتى 5/3/2017، والفترة من 25/3/2017 حتى 9/4/2017، والفترة من 7/6/2017 حتى 3/7/2017، والفترة من 17/8/2017 حتى 11/9/2017، والفترة من 5/10/2017 حتى 16/10/2017 دون الحصول على إجازة رسمية من جهة عمله، وسترا لذلك استغل تكليفه بمأموريات بجهة عمله ووقع بكشوف الحضور والانصراف بما يفيد تواجده بالعمل خلال الفترات المشار إليها رغم تغيبه عن العمل لثبوت تواجده خارج البلاد، وتقاضى راتبه والحوافز والبدلات عن تلك الفترة دون وجه حق.
وأكدت أوراق القضية مغادرة المتهم الأول للبلاد على النحو الثابت بشهادتي تحركاته الصادرتين من مصلحة الجوازات والهجرة والجنسية، فإنه يكون قد خرج على كافة القواعد والقوانين مستغلًا في ذلك سوء تنظيم المرفق الذي يعمل به مما أدى إلى عدم اكتشاف المخالفات المنسوبة إليه إلا بعد تقديم شكوى بشأنها، وإهمال رؤسائه الذين قاموا بتكليفه بمأموريات مصلحية بالرغم من تواجده بالخارج، بل وقاموا بإثبات توقيعه بدفتر الحضور والانصراف عن بعض الأيام ومنحه إجازات اعتيادية وعارضة عن البعض الآخر، فاستباح في ظل هذا الترهل الإداري والإهمال الجسيم أموال الجهة التي ينتمي إليها فتقاضى راتبه والحوافز وبدلات الانتقال والسفر عن المأموريات التي كلف بها على الرغم من عدم تواجده على رأس العمل لثبوت تواجده بالخارج، وهو على علم تام بعدم استحقاقه لتلك المبالغ
والمخالفة الثانية المنسوبة للمتهم الأول، تتلخص في قيامه بتحرير محضري جرد ومحضري اثبات حالة بتواريخ 13، 14، 15/6/2017 بالمأمورية التي كلف بها للإشراف على أعمال الجرد السنوي لعام 2016/2017 بمكتبي الصيادين وشيبة التابعين لمنطقة بريد جنوب الشرقية، وكذا تقديمه التقرير الخطي وتحرير محاضر الجرد وإثبات الحالة بشأنها، بالرغم من تواجده خارج البلاد في تواريخ تكليفه بتلك المأموريات، وتحرير وقيد التقارير الخطية أرقام 1، 2، 3، 4، 6 بتواريخ ثبت تواجده فيها خارج البلاد بالمخالفة للوائح والتعليمات
منطوق الحكم
فإن الثابت من الأوراق والتحقيقات أن ما نُسب إلى المحال الأول في هذه المخالفة ثابت بحقه ثبوتـًا لا يدع مجالًا للشك من واقع ما جاء بأقوال محسن عبد الوهاب صابر بشأن تحريره لمحضري جرد ومحضري إثبات حالة لمأموريات كان مكلفا بها بالرغم من تواجده خارج البلاد، وكذا إثبات وقيد العديد من التقارير الخطية المقدمة منه بتواريخ ثبت خلالها تواجده خارج البلاد أيضا، وعليه يكون المحال المذكور قد خرج على مقتضى الواجب الوظيفي.
والمخالفة المنسوبة للمحال الثاني محمد السيد موسى، نائب أول مدير إدارة بإدارة مراقبة حسابات البريد فرع الشرقية بالجهاز المركزي للمحاسبات بدرجة "وكيل وزارة"، تتمثل في اهماله في الاشراف والمتابعة على أعمال الأول مما أدى إلى ترديه في المخالفات المسندة إليه، وما نُسب إليه في هذه المخالفة ثابت بحقه ثبوتـًا لا يدع مجالًا للشك، ذلك أنه يجب على كل رئيس في أداء واجباته أن يراعي متابعة ومراجعة أعمال مرؤوسيه من الخاضعين لإشرافه ورقابته طبقًا للقوانين واللوائح ونظم العمل، والتحقق من سلامة أدائهم لواجباتهم بدقة وأمانة.
وقطعت الأوراق بأن تقصير المحال الثاني في المتابعة الفنية على المتهم الأول، ومراجعته للتقارير الخطية المقدمة منه عن المأموريات دون مطالبته له بتقديم محاضر الجرد وإثبات الحالة، أدى إلى عدم توجه المتهم الأول إلى مقر المأمورية والسفر إلى الخارج عدة مرات دون موافقة جهة عمله، وعدم اكتشافه لهذا الأمر أثناء مراجعته للتقارير دون تفتيش فعلي على الجهات محل الرقابة ومراجعته للتقارير المعدة في هذا الشأن، ولهذه الأسباب قضت المحكمة بمجازاة المتهم الأول مصطفى السيد عبد الحميد، بالإحالة إلى المعاش، وبمجازاة المحال الثاني محمد السيد موسى بعقوبة اللوم.