بعد خراب مالطا!
أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي. وها هو رئيس الإذاعة محمد نوار فعلها ووجَّه أخيرًا بوقف أحد قراء القرآن الكريم؛ على خلفية الأخطاء العديدة التي حفلت بها تلاوته في قرآن فجر السبت الماضي، وعرض جميع تلاواته السابقة على اللجنة المختصة. القارئ الموقوف لم يكن يقرأ غيبًا بل من المصحف. هذه ليست المرة الأولى التي أخطأ فيها هذا القارئ؛ فهو من أكثر القراء لحنًا وارتباكًا. والغريب أنه يحصل على فرص عديدة في القراءة على الهواء مباشرة، في الوقت الذي يتم فيه إبعاد قراء أكبر منه سنًا، وأكثر حفظًا، وأعظم إتقانًا، بل إن معظمهم طوته أيادي النسيان والتجاهل والاضطهاد.
الأمانة تقتضى التذكير بأنَّ محمد نوار تفاعل من قبل في أزمة شبيهة تتعلق بالقارئ صلاح الجمل قبل عامين، ووجَّه بتجميده على خلفية ما نشرناه في هذه الزاوية. هاتان الواقعتان تكشفان حال دولة التلاوة المصرية التي انهارت بشكل صارخ؛ على خلفية اعتماد قراء غير متقنين وذوي أصوات منفرة، من خلال لجان اختبار تفتقد إلى الدقة والانضباط أحيانًا، أو تخضع لمن يتدخل في صميم أعمالها تاراتٍ أخرى.
هناك قراء معروفون بالاسم تم اعتمادهم بالتمرير ودون إخضاعهم للاختبارات الحقيقية، وإذا اقتضت الحاجة للإفصاح عن أسمائهم فسوف نفعل لا شك. كتاب الله تعالى يجب حمايته وتجنيبه من هذه المجاملات الصارخة التي أفسدت كل شيء.
مشاكل دولة التلاوة
أبناء العاملين وأشقاؤهم وأولو القربى قاعدة بالية يجب إبعادها عن مجال تلاوة القرآن الكريم. الواقعة الأخيرة يجب أن تدق جرس الإنذار للانتباه إلى الأوضاع الصارخة التي زلزلت دولة التلاوة المصرية، فأفقدتها هيبتها وأهدرت شخصيتها. قبل شهر تقريبًا.. انفردتُ بإجراء حوار على صفحات النسخة الورقية من فيتو مع المؤرخ القرآني الكبير المستشار هشام فاروق الذي تحدث باستفاضة بالغة عن عوامل الضعف التي ضربت دولة التلاوة المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة، وعدَّد أسبابها، وطرح مقترحات للترميم والتداوي والإصلاح، إنْ أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ.
وأعتقد أن القائمين على أمر قراء الإذاعة والتليفزيون لو كلفوا أنفسهم مطالعة هذا الحوار الجامع المانع عند نشره ورقيًا ثم إلكترونيًا بعد ذلك، لتداركوا مثل هذه الأزمات التي زادت وتيرتها مؤخرًا. هشام فاروق رصد تراجع دولة التلاوة المصرية في صور شتى، أبرزها: تراجع مستوى وترتيب الطلبة المصريين في مسابقات القرآن الدولية في الخارج، وقلة الحُفاظ المتقنين المجوِّدين المعلمين، وعدم استيعاب المقارئ الرسمية لأعداد طلاب الحفظ.
ولجوء مكاتب التحفيظ الخاصة إلى طريقة التجارة دون اهتمام بمستوى الطالب حفظًا أو إتقانًا أو سلوكًا، وتفضيل أصحاب الليالى والعزاءات القارئ المغني -إن جاز التعبير- على القارئ الملتزم، وتحكُّم أصحاب محلات الفراشة في سوق القراء، وتساهل لجان الإذاعة في قبول قراء مقلدين مُغنين لا يصلحون من جهة الحفظ والأحكام والسلوك وتفضيلهم على مَن هم أفضل منهم حفظًا وأحكامًا وسلوكًا، ما ترتب عليه نشوء نشء مُقلد بالسماع دون علم غير حافظ للقرآن، جاهل بالتجويد وعلوم القرآن وأصول التلاوة وآدابها، غير موقر للقرآن ولا مُدرك لقدره وخطورته..
كل هدفه من دخول مجال التلاوة اكتساب المال ومنافع الدنيا بالتحصل على أجور خيالية مُغالى فيها وإتخام حسابات البنوك على حساب كلام الله بحيث صارت التلاوة مهنة مَن لا مهنة له! كل ذلك أوصلنا إلى حالة الانتكاس والتدهور والتراجع الحاد فى مجال تلاوة القرآن الكريم على النحو الذى نراه حاليا بحيث صارت المسألة تجارة فى تجارة!
كما حمَّل الرئيس بمحكمة استئناف الأسكندرية المستشار هشام فاروق عددًا من الجهات المسؤولية عن هذا التراجع، مشددًا على أن تلك المسؤولية يتحملها المجتمع كله، ابتداءً من: الأسرة والمدرسة لسوء التربية وسوء التغذية وتراجع المستوى الديني والأخلاقي والتعليمي، وعدم توقير القرآن ومعرفة قدره، وعدم الاهتمام بعلوم القرآن، وقلة الاهتمام باللغة العربية، وقلة الإتقان فى العمل، والسعى خلف مكاسب الدنيا السريعة.
إصلاح دولة التلاوة
كما تحدث المستشار هشام فاروق عن مسؤولية الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف؛ بسبب قلة المعاهد الأزهرية والمقارئ الرسمية وعدم استيعابها لأعداد طالبي الدراسة والحفظ، وتساهل مُعلمي القرآن في اختبار طلبتهم حفظا وسلوكًا، ومسؤولية ماسبيرو في قبول قراء مُقلدين مُغنين لا يصلحون من جهة الحفظ والأحكام والسلوك، ومسؤولية نقابة المحفظين والقراء في قبول غير الحفظة في عضويتها تساهلًا في اختبار حفظهم للقرآن مجاملة؛ ثم مسؤولية كل تلك الجهات في متابعة وعدم اتخاذ إجراءات صارمة ضد أكثر القراء غير الملتزمين خاصة الإذاعيين منهم.
وسخر هشام فاروق من أداء عديد من القراء الجدد ووصفهم بالأراجوزات؛ بسبب ابتعادهم عن الخشوع المطلوب والوقار المنشود أثناء تلاوة كتاب الله المجيد، مؤكدًا على ضرورة أن يكون قارئ القرآن الكريم وقورًا، ذا هيبة، تام الاحترام لكلام الله، خاشعًا لا يتفاعل ولا يتضاحك ولا يمزح مع الحاضرين في العزاء؛ توقيرًا وإجلالًا لكتاب الله، خاصة أن موقف العزاء هو تذكير بالموت والآخرة ونهاية كل حيّ، لكن هيهات! فهؤلاء تراهم يرتفعون وينخفضون ويتحرَّكون ويهتزُّون ويضطربون ويتمايلون، كأنَّ بهم مَسًّا مِن الشيطان، وتراهم يحركون أيديهم –بحركات تمثيلية- كما لو كانوا يُغنون تمامًا، يريدون أن يقرأوا القرآن بطريقة غناء المهرجانات!
وخلال الحوار.. ناشد هشام فاروق نقابة مُحفظي وقراء القرآن الكريم بالاضطلاع بمسؤوليتها الكاملة واستغلال صلاحياتها التي يكفلها لها القانون، في الحفاظ على القرآن الكريم وتراثه ومنع ووقف أي قارئ متجاوز وإبلاغ الجهات المختصة عنه.
كما خاطب أعضاء لجان الاختبار بالإذاعة والتليفزيون بأن يتقوا الله في اختياراتهم ويلتزموا بأمور ثلاثة هي: حفظ القرآن كله حفظًا تامًا، بحيث يتم اختبار حفظ القارئ المتقدم من أرباع مختلفة، ولا سيما الأرباع الصعبة وغير المطروقة. ثانيها: إجادة أحكام التجويد وعلوم القرآن خاصة الوقف والابتداء إجادة تامة. ثالثها: حُسن الصوت.
كما نصح مسؤولي ماسبيرو بأمور ثلاثة أخرى، أولها: أن يكون ضمن تشكيل لجنة الاختبار والاستماع الموحدة في الإذاعة ثلاثة على الأقل من الأعضاء الفنيين –مشايخ مُحفظين– من ذوي السُّمعة الطيبة والنزاهة وطهارة اليد. ثانيها: أن يكون من حق هؤلاء الأعضاء الفنيين منفردين أو مجتمعين منع اعتماد القارئ أو وقفه حتى لو وافق عليه الموسيقيون والموظفون في اللجنة. وثالثها: تشكيل لجنة عُليا لقبول القراء بالإذاعة والتليفزيون تكون مهمتها مراقبة أعمال اللجنة الموحدة ومدى مطابقتها للقواعد، ويكون من حق المستمعين الشكوى إليها واستئناف قرارات اللجنة الموحدة أمامها.
ودعا المستشار هشام فاروق في ختام الحوار لإعادة اختبار كل قراء الإذاعة الذين تم اعتمادهم منذ بداية الألفية الجديدة أو على الأقل منذ عام 2011. كما وجَّه رسالة لرئيس شبكة القرآن الكريم الذي غاب صوته تمامًا في الأزمة الأخيرة مفادها: ضرورة تشكيل لجنة من المتخصصين لسماع التلاوات المسجلة في الأمسيات الدينية قبل إذاعتها، بسبب ما يشوب بعضها من أخطاء في أحكام التلاوة وضوابطها.. فهل أنتم فاعلون بعدما خربت مالطا؟!