أودعته القبر ولم يقرأ وصيتي
هل قررت يوما أن تكتب وصيتك وبها تدعو صديق طفولتك وعمرك ليقوم بغسل جثمانك عند موتك، فتأتي إليه أنت بكفنه وتنزل به إلى القبر؟ هذا ما حدث معي بالتمام، أن اتخذت قرارا بصياغة وصيتي قبل سنوات، وفيها أن يحضر لغسلي حال وفاتي صديق طفولتي ورفيق عمري المهندس الشاب فاروق عبد الحفيظ محمد عبد الكريم الخبير التقني في أمن المعلومات، الذي توفي صائما السبت الماضي، وأودعناه القبر ظهر الأحد وسط حسرة وبكاء كل محبيه وكل من خدمهم ومن قدم لهم معروفا بالفعل والقول.
لحظات مرت فيها أمامي تفاصيل 45 سنة عشناه سويا منذ جاءني نبأ وفاته، كان بكائي صراخا غير طبيعي، وكانت حسرتي وحيرتي أشبه بحدث جلل حين ودعت شقيقتي الكبرى قبل 27 سنة، وحين صرت يتيما بفقدان الأب في خريف 2006 وهو من حضر من حرب اليمن إلى الحي الشعبي بالزيتون رفقة والد فاروق ليتجاورا في السكن وتحتفظ أسرة كل منهما بعلاقات ممتدة مع الأخرى صارت أقوى من رباط الدم.
في طفولتنا دخلنا حضانة واحدة ومدرسة واحدة، تعاركنا وتحالفنا، لعبنا الكرة ولفظنا الكره والكراهية، فعلنا ما يدعم أهلنا ومجتمعنا، لا نواجه ابتلاء إلا بالصبر ولا نفكر في أفعال الغير إلا ملتمسين العذر، حتى إذا ما فقد فاروق والده الطيب الرائد الخلوق، وهو في المرحلة الثانوية، عرفنا أكثر قيمة هذا النبيل الذي أنجب الطيبين والطيبات من البشر.
من صلب أبطال الحرب تعلمنا اعتزال الأذى وما لا يخصنا، حتى ظلت كلمة الصديق الراحل معلقة بذاكرتي منذ سن المراهقة منقولة عن والده، "يا حسين إحنا مش هانعيد تربية الناس وتفصيلهم".
في المعهد العالي للتكنولوجيا ببنها تخرج صديقي مهندسا وكان مهتما بدراسة كل ما يخص الحاسب الآلي ويضع كل ما يملك من وقت ومال في تطوير ذاته بهذا التخصص، بينما كان يداعبني حينما اخترت دراسة التاريخ بكلية الآداب لأمارس الصحافة طالبا جامعيا "هاتاخد ايه من اللي فات والصحافة والسياسة غير الغم يا صاحبي؟!".
بالفعل؛ فمثلي ومثله ينال منا المرض مبكرا، وغيرنا ممن تعلموا تفادي السقوط في فخ الشبهات والمتشابهات، فحضرته مكرما في تخصصه حاصلا على مستويات علمية أعلى، وحضرني محاربا بقلمي وفعلي لقوى الفساد.
إنسان راق
لم أنس ليلة قضيناها شارحا لي "الساينس" الذي كنت أهرب من مذاكرته إلى "النحو"، حتى إذا ما تركني ليتابعني بعد موعد امتحان الثانوية العامة ظهرا، يكتشف أنني لم أذهب إلى اللجنة، "راحت عليا نومة يا روقة"، فيرد ساخرا "يا خسارة ساعات الشرح معاك يا سحس.. الله يسامحك يا بتاع أدبي".
حزن ممتد عشته معه خلال العامين الأخيرين، وقد فقد خلالهما الشقيقين الكبيرين، محمد النبيل الطيب الخلوق المتدين، وأحمد معلم الأجيال الفاضل والمفكر المستنير، وقبل بضعة أشهر الأم الغالية الحانية الجامعة لهؤلاء وأولئك، حتى بات شارعنا بالحي الشعبي الذي التصقنا به رغم ابتعادنا جغرافيا عنه لظروف السكن كبارا، يميز المنزل رقم "2" بأنه بيت العائلة الحزينة التي غلب كرم أهلها خبث كل لئيم.
ليلة من ليالي رمضان كانت مأساوية تماما، ليس لفقدان واحد من شباب مهندسي خبراء أمن المعلومات كما أحسبه وغيري من رفاقه العارفين بدروب هذا التخصص، بل لخسارة إنسان راق بخلقه وسلوكه بين البشر، ربما أسوأ ما كان يواجهه في حياته حسدا كانت والدته الراحلة تلمحه في عيون مراقبيه طفلا تخشى عليه من غير الأسوياء، وقد أصابت سهامهم كثيرين من أمثاله أهل الوعي والسلوك الطيب معا.
للمرة الأولى أنزل بقدماي إلى القبر لأودع عزيزا التراب، رغم تعداد وتكرار أحداث الموت بين أحبة وأقرباء أبناء دم واحد، لكنها حكمة الله التي جعلتني صامتا أمام وجه رفيق العمر فاروق الراقد في كفنه على طاولة الغسل، أحدثه بعيني: "يا أخي.. كتبت وصيتي لتغسلني أنت متى مت أنا، ولم يخطر ببالي لحظة أن أحضر لك كفنك بيدي وأودعك التراب".
قدرنا أن نحيا موتى لا نعلم موعدا للذهاب وهذه رحمة الله بنا، أن تعيش كعمر كما وصفتك في طفولتنا فاروقا بين الحق والباطل، وأن أعيش شهيدا في معركة ممتدة مع حداد لن يفارقني بعدك، وقد ظننتك أطول مني عمرا في الحياة الدنيا.
أذكروا الطيبين وخلدوا سيرهم، وضعوا نصب أعينكم وأبنائكم كل مثال حي على الجد والاجتهاد والعمل والتقوى، لا تكتفوا بكلمات معتادة من عينة "مات في أيام الفرج والرحمة والبركة"، وأكملوا سيرة موتاكم بصلات أرحام لا تنقطع مع محبيهم، وخير لا ممنوع عن مريديهم، ودعوات مقترنة بالصدقات لأرواحهم تنفعهم عند حساب فتقضي عنهم دينا يعلمه الله ولا تعلموه وتضيف إلى رصيد حسناتهم ما ينفعهم حقا.