شهيد الإسكندرية
كنت أتصفح المواقع الاجتماعية عندما صادفتني تدوينة تتحدث عن استشهاد كاهن كنيسة بالإسكندرية، أفزعني خبر مقتله، ولكن ليس بقدر الخوف الذي تملكني عندما شاهدت تعليقات البعض وقد تملكتهم السعادة بسبب مقتل الضحية بدلًا من إدانه القاتل، بل زادوا في شرهم بأن اعتبروا الترحم على هذه الروح البريئة التي قُتلت بغير ذنب، خطأ ديني كونه غير مسلم، فما الفارق إذن بين هؤلاء وبين يد القاتل!
حركت أصبعي على الشاشة لأغادر هذه التدوينة إلى غيرها سريعًا فلم يعد في استطاعتي قراءة كل هذه الوضاعة التي لا تبدي احترامًا لهيبة الموت، ولا تتعاطف مع المجني عليه، بل تجد في مقتله لذة وانتصار خفي يكشف سواد قلوبهم، ولكن الغريب إنني فور مغادرتي لهذه التعليقات وجدت أمامي تدوينة أخرى تحمل كلمة نُسبت للأديب الراحل نجيب محفوظ يقول خلالها "إن العقل الواعي هو القادر على احترام الفكرة حتى ولو لم يؤمن بها"..
وكأن هذه العبارة قد جاءت في لحظتها المناسبة لتوضح لي غياب العقل الواعي عن أصحاب هذه التعليقات، مثلما جعلني الأمر أتذكر محاولة اغتيال نجيب محفوظ في التسعينيات من القرن الماضي حينما تعرض لطعنة في عنقه على يد شابين، لم يقرأوا له، لكنهما قررا اغتياله، لإتهام شيوخ التطرف والإرهاب له بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته أولاد حارتنا.. جهلاء لم يقرأوا حرفًا واحدًا لضحيتهم لكنهم انساقوا وراء دعوات شيوخهم المتطرفين الذين حركوا بأفكارهم الفاسدة السكين إلى رقبة رجل برئ لم يرتكب ذنبًا سوى التفكير والحلم والإبداع والكتابة.
تطرف وكراهية
والآن تحركت سكينًا أخرى لتطعن رقبة كاهن برئ، لم يرتكب شرًا تجاه قاتله، بل كان يصلي لربه في أمان، مرتديًا زيه الدين، مؤديًا وظيفته في رعاية أبناء كنيسته، وفي لحظاته الأخيرة كان مع رعيته في اجتماع عقدته الكنيسة بالشاطئ، وفور انتهائهم، وقف ليطمئن ويتابع انتظامهم واستقلالهم للحافلات، مؤديًا وظيفته حتى النهاية، قبل أن تنال منه يد الإجرام..
وجميعنا لدينا ثقة بأن النيابة العامة ستقوم بكشف بواعث ارتكاب الجريمة وإعلانها بوضوح وستقوم المحكمة بدورها بعقاب القاتل.. ولكن ألا يمكن أن نظن أن الدافع الحقيقي الذي وجه سكين القاتل إلى ضحيته هو نفسه الذي جعل السكين تصيب عنق "نجيب محفوظ" قبل أكثر من ربع قرن!
إن التطرف الديني آفة تصيب مجتمعنا، يسقيها ويرعاها شيوخ وظفوا الدين لإفساد الدنيا وليس تعميرها، فأحاطونا بفتاويهم المتطرفة، وأفكارهم البالية، وعاداتهم البليدة، وثقافتهم الضحلة، التي أرجعت أفكار البعض إلى قرون ماضية، وجعلت قلوب مريديهم سوداء، كارهة لكل مختلف دينيًا، فتجد هؤلاء، وقد تحولت أدمغتهم إلى قنابل موقوتة، فصاروا يكرهون كل من حولهم، يبغضون المسيحيين، ويكرهون الشيعة، ويحتقرون البوذيين، لديهم عداوة وكراهية ضد الجميع بمن فيهم الحطابين في الجبال النائية، والفلاحين فى مزارعهم، والعجائز حول نار المدفأة فى ليالي الشتاء بعد أن زرع هؤلاء الشيوخ في عقولهم الكراهية تجاه أي شخص لديه تصور مغاير لهم.
امنعوا نشر الأفكار المتطرفة، وضيقوا الخناق على منابعها، فلا تسمحوا لشيخ غير واعي بصعود المنبر، أو بمخاطبة الجمهور في وسائل الإعلام أو نشر أفكاره الفاسدة عبر المواقع الاجتماعية، وعندها فقط لن تتحرك المزيد من السكاكين إلى أعناق بريئة لم ترتكب ذنبًا.