عالم متعدد الفتوات
حتى وقت قريب كنا نردد أن «العالم أصبح قرية صغيرة»، والآن أصبح العالم غرفة صغيرة بلا أسرار، وقد تتداعى جنبات الغرفة من مجرد خط الألوان على أحد جدرانها. الحرب على أوكرانيا هى حرب فى غرفتك، وعلى مائدتك، واقتحمت خزين مطبخك، لم يعد العالم قرية يمكنك أن تهرب فى أحد حواريها أو تتجنب تداعياتها.
يتحدث العالم، كل العالم غربه وشرقه، شماله وجنوبه، عن تداعيات الغزو الروسى لأوكرانيا، أوروبا تأثرت وتتأثر يوما بعد يوما، أمريكا التى كنا نظنها بمنأى عن شروخ الغرفة تتأثر، شمال الكرة يتأثر وجنوبها وكل خرائط العالم تتداعى لما يجرى فى أوكرانيا.
ورغم أن الألم يطال الجميع، المنتصر والمهزوم ومن يساندهما، إلا أن التحرك الفعلى لإيقاف الحرب يمضى وكأننا أمام مباراة فى كرة القدم نستمتع بتفاصيل أشواطها. الشامتون فى أمريكا وانفرادها بإدارة العالم يرسمون ملامح لعالم أكثر عدالة بعد عودة الوحش الروسى للتموضع من جديد، ومعه مساندة روسيا وبزوغ تكتلات جديدة توحى لقصار النظر أن الأمر يسير بشكل جيد.
كان العالم ذا قطبين واحتلت فلسطين والجولان وأراض عربية أخرى كثيرة، ولم يستطع القطب الآخر أن يوقف المهزلة، خسرنا حروبا عندما كنا نقف مستسلمين للقطب الاشتراكى، ولم ننتصر بتوجهنا إلى القطب الرأسمالى. فقط انتصرنا عندما اتخذنا طريقا مستقلا ونوعنا مصادر أسلحتنا ولعبنا بإمكاناتنا وقدراتنا على كافة المناحى، فى النهاية يقف العالم صامتا أمام القادر القوى، ولا ينصت لأنات الضعفاء مهما تعالت.
ترقب وانتظار
الرئيس الأوكرانى يطلق الصرخات منددا بأن الذين وعدوه بالحماية تركوه وحيدا يقاتل، والروس يقاتلون وهم يدركون أن الثمن المدفوع أقل من مكاسب حربهم، فالحرب هنا ضرورة كما ادعى بوتين.
عواصم العالم تراقب عن كثب ما يدور فى الغرفة التى يسكنون فيها معنا، ومع ذلك لا تبرح عاصمة واحدة أن تتحرك من سباتها رغم الآثار الخطيرة التى تعانى منها غرفة العالم. تحتاج الإنسانية إلى مصلحين لا إلى سياسيين، وزمن المصلح التقليدى قد ولى وانتهى، وأضحى العالم يدار من داخل غرف وسائل التواصل الاجتماعى.
الحرب لم تعد أرضا تحتل ولا دبابة تتحرك، ربما كانت هذه بعض شواهد المعركة، غير أن الذى يدور فى الأعماق أبعد من فكرة الدبابة والصاروخ. فوضى سنوات الانفراد الأمريكى تتفكك لتحل محلها فوضى أخرى، فوضى من نوع آخر، فوضى أكثر تنظيما وأكثر دقة وربما أكثر قبولا غير أنها فى النهاية فوضى.
وفوضى الغرفة التى يسكنها العالم الآن تتموضع فيها القوى الجديدة والقوى العائدة من سبات الزمن ليحصل كل منهم على حقه الطبيعى من الاستغلال (استغلال بقية السكان). الأكثر إثارة أن ضعاف القوم ينتظرون كيف ستسير الأمور وإلى أي فريق سينتمون، ليس من أجل التحرر الكامل، ولكن من أجل الانصياع بدرجة أقل مع البودى جارد القادم.
فى أفريقيا المستكينة الضعيفة، وداخل منطقتنا العربية المستسلمة لا حول لنا ولا قوة، ننتظر جميعا الخلاص من الظالم الأوحد إلى تعدد ظلمي يسمح لنا بالتنقل بينهم ليس إلا. يعزو البعض القادم إلى أنه لن يكون أكثر سوداوية من الاستفراد الأمريكى بصرف النظر عن الاستغلال القادم عبر الصين أو روسيا أو التكتلات الجديدة.
يرى البعض أن تعدد الفتوات لن يترك للفتوة الأوحد أن يمارس غيه وغطرسته كما كان، عدنا أخير أو أننا فى طريق العودة إلى عالم تتعدد فيه الفتوات. أن تصبح أكثر حرية فى اختيار الفتوة الذى يحظى بحمايتك وأيضا باستغلالك ونهب مواردك فهذا أمر جيد للضعفاء والمقهورين، وما أكثرهم فى غرفتنا الصغيرة التى بتنا نقيم فيها جميعا مثل تخشيبة قسم الشرطة فى بلادنا، عالم جديد لا يجب أن يحظى فيه بلطجى واحد بإدارة موارد الزنزانة، فكلما تعددت البلطجة أصبح الضعيف أكثر إحساسا بالأمان حتى لو كان وهميا.