وآفة بلدنا المحتسبون دائما!
لا يمل المجتمع المصري من إنتاج مٌلاك للحقيقة المطلقة، على رأس هؤلاء المحتسبون ـ كتائب الأمر بالمعروف بغير ذي صفة أو علم، الذين يتضاعف خطرهم بتسربهم في جميع المجالات، من السياسة للإعلام، ومن الفن والدين للرياضة، وهؤلاء يتخذون من صعود تيار العقلانية في كل زمن مبررًا لإنتاج ثقافة دينية شعبوية خطرة بزعم حماية الدين والقيم.
بقليل من الجهد يستطيع المحتسب إحكام سيطرته على الفضاء العام للمجتمع، يوجه الرأي العام بكل سهولة لرفضً أي رأي يصدر عن مفكر أو مثقف أو إعلامي أو صحفي، بحجة تصادم هذا الرأي كليًا أو في أحد جوانبه مع الإرث الثقافي والاجتماعي والديني الذي اعتادوا عليه.
على خلاف المحتسبين القدامى الذين عرفوا كيف يستخدمون مبادئ الحداثة والديمقراطية في الصراع مع معارضيهم، يشتعل محتسبي هذا الزمن بسرعة ملفتة مع كل رأي أو كلمة غير مألوفة عن الدين أو عادات وتقاليد المجتمع. يشنون حملات تحريضية ممنهجة تستهدف في المقام الأول تقفيل الجيم سريعًا عبر محاولات لا تنفض لجر السلطة السياسية والقضائية والتشريعية مدفوعة بغضب الشارع للتدخل وتدمير أي بارقة أمل في إبقاء المجتمع حيا، يفكر ويختلف ويتمرد، يعبر عن مشاعره وأفكاره وتدينه دون وصاية أو توجيه.
المحتسب بطبعه لا يؤمن إلا برؤية شديدة الأحادية للدولة والمجتمع والدين، يحاول دائما تُصدّير تصوراته للعوام واستخدامهم في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إذ يعرف جيدا أن قدرته على استثارتهم ستعطيه صك حماية المجتمع من التطرف، والدين من الضياع، وهو صيت ما بعده صيت.
أفكار متسامحة
يستغل المحتسب صراخ العوام للإعلان عن مواهبه في تسويق الانغلاق والتسلط، فصاحب هذه العقلية لا يشعر بأي خوف، ولا ينتابه أي قلق من افتقار المجتمع المهين للمعرفة، ولا يمسه أذى من تسرب الضحالة الفكرية لأعلى طبقاته.
لا يشغل نفسه بتحريض الناس على القراءة والمعرفة الذاتية وتحفيزهم على امتلاك الوعي، بنفس اهتمامه بتخويف المجتمع من الجرأة في التفكير خارج الصندوق، والتلويح له بشكل دائم بانعكاسات ذلك على الدخول في مواجهة مع الله والدين والقيم والأخلاق.
لا يسعى لإنتاج أفكار حقيقية تعبر عنه، بقدر اجتهاده في اللعب على المبالغة والتخويف من منتقدي الأصولية التي جرت البلاد والعباد إلى مستنقعات من التطرف يصعب إنكارها، يحرض دائما على قطع الصلة تمامًا بالعقلانية عبر الاستثمار في تجهيز البيئة المصرية لأن تبقى دائما على أهبة الاستعداد لاستقبال أصحاب الميول الأكثر تطرفًا.
يسوّق المحتسب لثقافة الاستئصال، يناهض كل سعي للاجتهاد في صناعة ثقافة وقوانين تحمي حقوق وضمائر كل من يحيا بسلمية وتحضر على أرض مصر، وهي الفريضة الغائبة دائما عن بلادنا، وبدونها لن تمتلك القدرة لا حاليا ولا مستقبلا على بناء مجتمع مدني ديمقراطي حقيقي حر يسع الجميع ويفرق أفراده بوعي وعقلانية وعلم بين النسبي والمطلق، ويضعون كل منهما في مكانه الصحيح.
يخبرنا التاريخ أن المجتمعات التي أزالت عنها غبار التطرف والتخلف تعلمت الدرس بعد أن دفعت فواتير باهظة من دماء الاستقطاب المتطرف الذي طال لقرون زمنية، وأصبحت الآن تشجع على المحبة والعدالة وحق الآخر في الوجود، تنتج للبشرية أفكار أكثر تسامحيه، تسهل مع الديمقراطية مهمة إعلاء قيمة الفرد وحرية الضمير.
لكن مآساتنا المزمنة مع طبقة المحتسبين التي تعيد إنتاج نفسها على رأس كل عقد من الزمن في بلادنا الاستعلاء على دروس التاريخ، والإصرار على اتباع الطريق الموحش من بدايته، والترويج للكراهية والتشفير والإلغاء والشيطنة في حل الخلافات الفكرية، وليس مهما الثمن الذي سيدفعه المجتمع َ.
وافق المحتسبون أو رفضوا، أكملوا طريقهم أو تراجعوا، لا تقدم ولا رفعه لنا إلا بالعقل والتسامح وحرية الضمير واحترام الآخر!