متى يلجأ المتقاضي إلى رد القاضي؟ (2)
عودٌ على ما بدأناه وأشرنا فيما سبق إليه حول أسباب رد القاضي، والتي تضمنها الباب الثامن من قانون المرافعات، نوعان: (الأول) هو أسباب عدم صلاحية تجعل القاضي ممنوعًا من سماع الدعوى غير صالح للحكم فيها، ولو لم يَرُده أحد من خصومها، وهي المنصوص عليها في المادة (146)، والمعنى الجامع لهذا النوع من الأسباب هو كونها مما تضعف له النفس في الأعم الأغلب، ومن بينها إذا كان قد أفتى أو ترافع عن أحد الخصوم في الدعوى، أو كتب فيها ولو كان قبل اشتغاله بالقضاء، أو كان قد سبق له نظرها قاضيًا أو خبيرًا أو محكَّمًا، أو كان قد أدى شهادة فيها.
ولذا نص المشرع في المادة (147) على أن عمل القاضي أو قضاءه في الأحوال المتقدمة لهذا النوع، ولو باتفاق الخصوم يقع باطلا، أما (النوع الثاني) من الأسباب فلا تمنع القاضي من سماع الدعوى ولا تجعله غير صالح لنظرها، وإنما تجيز للخصم أن يطلب رده، وهي المنصوص عليها بالمادة (148)، ومن بينها إذا كانت بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل.
المشرع حدد على سبيل الحصر الأسباب التي يجوز مع قيام أحدها رد القاضي، وهي أن يكون للقاضي أو لزوجته دعوى مماثلة للدعوى التي ينظرها، أو إذا جدت لأحدهما خصومة من أحد الخصوم أو لزوجته بعد رفع الدعوى المطروحة على القاضي، ما لم تكن هذه الدعوى قد رفعت بقصد رده عن نظر الدعوى المطروحة عليه، أو إذا كان لمطلقة القاضي التي له منها ولد، أو لأحد أقاربه أو أصهاره على عمود النسب خصومة قائمة أمام القضاء مع أحد الخصوم في الدعوى أو مع زوجته، ما لم تكن هذه الخصومة قد أقيمت بعد رفع الدعوى المطروحة على القاضي بقصد رده.
عداوة أو مودة
أو إذا كان أحد الخصوم خادمًا للقاضي، أو اعتاد مؤاكلته أو مساكنته أو كان قد تلقى منه هدية قبيل رفع الدعوى المطروحة عليه أو بعده، أو إذا كان بين القاضي وأحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل، فإذا قامت أحد هذه الأسباب بالقاضي وجب تقديم طلب رده قبل تقديم أي دفع أو دفاع وإلا سقط الحق في تقديم طلب الرد.
ومبدأ حياد القاضي يتأسس على قاعدة أصولية قوامها وجوب اطمئنان المتقاضي إلى قاضيه، وأن قضاءه لا يصدر إلا عن الحق وحده دون تحيز أو هوى، وقد حرصت التشريعات المنظمة لشئون القضاء على تدعيم وتوفير هذه الحيدة، ولم تغفل في الوقت ذاته عن حق المتقاضي، إذا كانت لديه أسباب تؤدي إلى مظنة التأثير في هذه الحيدة، أن يجد السبيل ليحول بين من قامت في شأنه تلك المظنة وبين القضاء في دعواه، ومن ثم فقد قام حقه في رد القاضي عن نظر نزاع بعينه كحق من الحقوق الأساسية التي ترتبط بحق التقاضي ذاته.
إلا أنه لما كان هذا الحق من الحقوق قد يتعرض لأن تستشري في شأنه ظاهرة إساءة استعماله بالإفراط فيه واستخدامه سبيلًا للكيد واللدد في الخصومة وإطالة أمد الفصل في القضايا، دون تحسب لما يؤدي إليه الأمر من إيذاء القضاة في اعتبارهم ومكانتهم ومشاعرهم، وجعل نزاهتهم وحيدتهم محل شك من الخصوم، وسمعتهم مضغة في الأفواه.
حق المتقاضين
فقد حرص المشرع على تحقيق التوازن بين المحافظة على حق المتقاضين في رد القضاة إذا توافرت أسبابه المعينة حصرًا، وبين تقرير ضوابط دقيقة تجعل من ممارسة هذا الحق منوطًا بتوافر الجدية والبعد عن العبث والحيلولة دون استخدامه سبيلًا للكيد وعرقلة الفصل في القضايا والإساءة إلى القضاة.
وجاء بالمذكرة الإيضاحية لقانون المرافعات السابق بشأن المادة (315) منه المطابقة للمادة (148) من القانون الحالي أنه: ذكر القانون الجديد في المادة (315) أسباب رد القاضي، وذكر في آخرها حكم القانون الحالي الذي يجيز الرد إذا كان بين القاضي وبين أحد الخصوم عداوة شديدة أو مودة وثيقة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل.
وعملًا بهذا الحكم يجوز رد القاضي لعداوة شخصية ولو لم تنشأ عنها قضية، أو لمودة متينة ولو لم تنشأ عنها زوجية أو قرابة أو مصاهرة أو مؤاكلة، حيث إنه من المقرر أنه يجب أن تكون عاطفة الود أو العداوة قوية بحيث يرجح معها عدم استطاعة القاضي الحكم في الدعوى المطروحة عليه بغير ميل، وتقدير وجود عداوة أو مودة بين القاضي وأحد الخصوم يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل ونفى ذلك من سلطة محكمة الموضوع.. وللحديث بقية.