مع السلامة يا ياسر.. تعجلت يا أخي
مشيت بسرعة يا ياسر، كنت متعجلا دائما.. قلقا.. متوترا، كأنما كنت تعلم أن العمر قصير، وأن لديك رسالة لابد أن تبلغها، وأمانة يجب أن تردها إلى خالقها. عرفتك لأول مرة منذ أكثر من أربعين عاما، بعد ظهيرة أحد أيام الصيف الحارة، من عام 1980، عندما اصطحبك والدك وأبي الروحي الأستاذ فتحي رزق، أو عم فتحي كما كنا نناديه -رحمه الله- إلى حديقة نقابة الصحفيين الشهيرة، في مبناها التاريخي القديم، وقدمك لنا..
وكنت قد أنهيت لتوك دراستك في الشهادة الإعدادية، أو الصف الأول الثانوي، لا أذكر بالضبط، قائلا بفخر واعتزاز: ياسر ابني، وسألتك وقتها عن حلمك بعد الدراسة، فقلت بسرعة وعفوية: عاوز أكون صحفي زي بابا، وكنت أنا-وقتها- طالبا في الجامعة، وبدأت لتوي مشواري الصحفي في جريدة الشعب، ومشواري النقابي من حديقة نقابة الصحفيين.
كان عم فتحي رزق، السكرتير العام الأسبق لنقابة الصحفيين، حريصا أن يقترب ابنه ياسر من رموز العمل النقابي وقتها، الأساتذة الكبار: كامل زهيري وإبراهيم يونس ومحمود المراغي وصلاح عيسى وحسين عبدالرازق وجمال حمدي وجلال عيسى، رحمة الله عليهم جميعا، وجلال عارف وأمينة شفيق أطال الله في عمريهما، مثلما كان حريصا أيضًا أن يصطحبه إلى صالة تحرير جريدة الأخبار، والتي كان فتحي رزق سكرتيرا عاما لتحريرها بعد أن عمل لسنوات مراسلا عسكريا مرموقا.
ليتعرف ياسر عن قرب، وفي هذه السن الصغيرة، على قامات صحفية ومهنية شامخة في تاريخ المهنة العظيمة.. مثل: مصطفى أمين، موسى صبري، سعيد سنبل، محمود عوض، أحمد رجب، جلال عيسى، تهاني إبراهيم، وغيرهم كثيرون من كبار صحفيي المؤسسة العريقة، التي حرصت على احتضان ياسر رزق، وفاء لوالده الذي توفى بينما كان هو طالبا في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، ومن وقتها بدأ نبوغه الصحفي ومشواره المهني المميز، الذي وضعه ضمن أسماء كبيرة توالت على قيادة دار أخبار اليوم العتيدة.
أذكر يا ياسر، كيف امتلأت عيناك بالدموع، عندما نجحنا سويا في انتخابات نقابتنا العظيمة نقابة الصحفيين، في مارس من العام 1999، وأنا احتضنك لتهنئتك.. فتقول لي وأنت تغالب دموعك: "النهاردة اتنين من ولاد فتحي رزق نجحوا.. أنا وأنت".
الذكريات طويلة وممتدة يا ياسر، ومواقفك المهنية والنقابية كثيرة، لكني أسجل لك منها موقفك شديد الاحترام أثناء الأزمة الكبيرة التي أعقبت الاقتحام المشؤوم لنقابة الصحفيين، أول مايو 2016، والتي طالبت فيها بإقالة وزير الداخلية، وجاهرت برفضك الاقتحام.. ولم تساير السيناريو الذي تم تدبيره بليل وإعداده لفريق جبهة تصحيح المسار، أو جبهة العار كما أسماها الصحفيون المصريون..
ودفعت راضيا ثمن موقفك المنحاز لنقابتك ومهنتك، إذ بدأت -من وقتها- أجنحة الشر في الكيد لك، لإبعادك عن عشقك الأول أخبار اليوم، وعن حبك لمهنتك الذي وضعك في صدارة المشهد الصحفي والإعلامي، بعد ثورة 25 يناير العظيمة، فأقلقت تلك الصدارة الكثيرين.. فزادوا من كيدهم وشرهم، حتى نجحوا في إسكاتك.
ياسر.. لم تحتمل يا صديقي مرارة البعد عن مهنة المتاعب، ولم تستوعب غدر أصدقاء وزملاء وتلاميذ، وتعجلت كعادتك.. وترفعت عن المشهد البائس كله، فآثرت الرحيل.. وأنت في قمة تألقك المهني ونبلك الإنساني، بعد أن قدمت للمهنة والوطن والتاريخ شهادتك على سنوات الخماسين، الشهادة التي حرصت على ألا تكتمها، عن أيام عشتها في حب هذا الوطن، وعايشت فيها دقائق وأسرار مرحلة مفصلية في تاريخه الطويل.
مع السلامة يا أخي، وإلى لقاء قريب أيها الصحفي النابه المحترم، والمهني الرائع المميز، والإنسان الخلوق النبيل. "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي" صدق الله العظيم.