رئيس التحرير
عصام كامل

حكم إندونيسيا 3 عقود بالحديد والنار.. سوهارتو الديكتاتور الأكثر فسادًا

سوهارتو
سوهارتو

في يوم 27 يناير عام 2008، وتحت عنوان "موت الوحش الأكثر فسادًا"، نشرت معظم الصحف العالمية خبر وفاة ديكتاتور شرق آسيا "سوهارتو"، الذي حكم إندونيسيا لثلاثين عامًا بالحديد والنار، بعد انقلاب عسكري دموي، راح ضحيته مئات الآلاف، عام 1998، بعد مقتل ستة طلاب على أيدي قوات الأمن في الجامعة.

النشأة الاستعمارية

ولد الديكتاتور في الثامن من يونيو عام 1921، في عهد جزر الهند الشرقية الهولندية، في منزل مُغطى بجدران من الخيزران في قرية كيموسوك، وهي جزء من قرية غودان الأكبر، إبّان انتهاء الحرب العالمية الأولى، لأبوين من أصل جاوي، وكان الطفل الوحيد لزواج والده الثاني.

وعام 1929؛ أخذه والده للعيش مع أخته مرة أخرى، والتي كانت متزوجة من مشرف زراعي، وظلّ في تشتت، حتى قرر الانضمام للمؤسسة العسكرية، وهو ما حدث بحلول عام 1940، إذ أصبح ضابطًا بالجيش، بعد قيام الحرب العالمية الثانية، واحتلال الصين من قبل اليابان.

أصبح سوهارتو ضابطًا تحت قيادة الجيش الاستعماري الذي أنشأه اليابانيون، بعد إعلان الاستقلال الإندونيسي، عام 1949، وانضمّ إلى الجيش الإندونيسي المنشأ حديثًا، ومن ثم خدم كضابط مهني في ثلاثة جيوش مختلفة خلال عقد من الزمن، كانت هذه سمة مميزة تمامًا لهذا الرجل.

حكم سوكارنو

بعد الاستقلال؛ حكم إندونيسيا بونابارتيست سوكارنو، الذي حاول خلق حالة من التوازن بين الطبقات ليستمر بالسلطة؛ إذ كان الحزب الشيوعي الإندونيسي (PCI) أكبر حزب شيوعي خارج الكتلة السوفيتية، ولديه أكثر من ثلاثة ملايين عضو، وعشرة ملايين عامل في النقابات العمالية، وعدد مماثل من الفلاحين، علاوة على ذلك، حصل على تأييد 40% من القوات المسلحة، وكان هذا موقفًا في غاية القوة.

كان بإمكان الحزب الشيوعي الاستيلاء بسهولة على السلطة، لكن كانت لديهم نظرية الثورة الستالينية عبر المراحل، وقد دفعهم ذلك إلى دعم "البونوازية" بونابارتيست سوكارنو، وهي سياسة تعاونية طبقية شجعت بكين على انتهاجها، ثم بحلول أبريل، زادت التوترات بين الجيش والشيوعيين؛ إذ أيّد سوكارنو التنفيذ الفوري لاقتراح "PKI" "للقوة المسلحة الخامسة"، التي تتكون من الفلاحين والعمال المسلحين، ومع ذلك تمّ رفض هذه الفكرة من قبل قيادة الجيش، وفي شهر مايو؛ أثارت "وثيقة جيلكريست" خوف سوكارنو من مؤامرة عسكرية للإطاحة به، وهو الخوف الذي ذكره، مرارًا وتكرارًا، خلال الأشهر القليلة قبل الانقلاب الفعلي عليه.

سوهارتو في بداية حكمه

في خطاب يوم الاستقلال، في أغسطس، أعلن سوكارنو عزمه على إلزام إندونيسيا بتحالف مناهض للإمبريالية مع الصين، وغيرها من الأنظمة الشيوعية، وحذّر الجيش من التدخّل؛ لذا كان الأمريكيون قلقون بشأن قوة "PCI"، وخططوا لتدميره وإسقاط سوكارنو بانقلاب عنيف. 

عرفت قيادة"PCI" " كلّ هذه الاستعدادات، وبدلًا من شجبهم علانية وتنظيم إضراب عام وانتفاضة، حاولوا حلّ المشكلة باغتيال الجنرالات اليمنيين، في 30 سبتمبر؛ إذ فشل هذا التكتيك الكارثي، وانتقلت زمام الأمور إلى سوهارتو واليمين، لقد حشدوا عصابات من المسلمين المتعصبين لمهاجمة الشيوعيين في جميع أنحاء البلاد وذبحهم، تمّ قطع رؤوس مئات الآلاف من العمال والفلاحين، أو طعنهم بالسكاكين حتى الموت.

كما يذكر أنّ حمام الدم الرهيب هذا تمّ إعداده وتنظيمه ودعمه بنشاط من قبل وكالة المخابرات المركزية، كما دعمت بريطانيا المجازر في إندونيسيا، في وقت كانت الولايات المتحدة منخرطة في حرب فيتنام.

سوهارتو في أواخر أيامه

الأمريكان رأوا أنّ الانقلاب وسيلة لتسليم ثروات إندونيسيا الرائعة لشركات التعدين الكبرى والشركات غير الوطنية في الولايات المتحدة، لذا فإنّ دكتاتورية سوهارتو الدموية، التي حظرت النقابات والإضرابات وقتلت النشطاء العماليين، جعلت إندونيسيا حظيرة للإمبريالية الأمريكية، وعليه فقد كافؤوه من خلال السماح له بأخذ شريحة من الأرباح الضخمة، والتي كان يدّخرها بأمان في البنوك الأجنبية منذ استيلائه على  السلطة، ولكن عندما فشلت الرأسمالية في إندونيسيا، أثناء الركود الاقتصادي الآسيوي، عام 1997، ألقى المجتمع الدولي باللائمة على سوهارتو في "تجاوزاته" في حكم البلاد، وبعد كلّ هذه الأعوام من غضّهم الطرف عن نظامه الدموي، اكتشفوا فجأة "انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان"، وذلك لأنّهم أدركوا أنّ المعارضة تزداد، وأنّ صديقهم في جاكرتا قد انتهت جدوى وجوده، وبعد وفاته اصطفوا جميعًا مجددًا للثناء على الديكتاتور قائلين إنّه "رغم أخطائه، فقد حقق تقدمًا في إندونيسيا، رغم كلّ الدماء التي أسالها".

قُتل عدد كبير من المعارضين السياسيين أو سجنوا، أو أُرسلوا إلى معسكرات العمل، خلال ثلاثة عقود من حكم سوهارتو؛ حيث مات عشرات الآلاف في تيمور الشرقية وحدها.

بعد ضمّها غير القانوني، عام 1975، فقد سوهارتو قبضته على السلطة فقط عندما أدت الأزمة المالية الآسيوية إلى اضطرابات شعبية حول الأسعار الصارخة والبطالة، والتي لم يكن لديه أيّ جواب عليها، سوى القمع، لتنتهي مسيرته السياسية، في مايو 1998، بعد شهرين من إصراره على الترشح لفترة رئاسية سابعة، بعدما عيّن مجلسًا يهيمن عليه أصدقاؤه القدامى وعائلته، حتى أثار مقتل ستة من الطلاب على أيدي قوات الأمن في جامعة تريساكتي، مما اضطر الديكتاتور للرضوخ والتنازل عن السلطة، بعد 32 عامًا من نهب ثروات الشعب، ومقتل ما لا يقل عن نصف مليون شيوعي إندونيسي، غير الذين فقدوا بلا رجعة، وبعض الإحصائيات قدمت رقم مليون قتيل على يد الديكتاتور، الذي قدِّرت ثروته بمليارات الدولارات، ومات آمنًا لم يحاسب على أفعاله.

وقبل إطاحته مباشرة، أرسل تسعة مليارات دولار إلى البنوك في النمسا، وقدِّرت ثروته الشخصية بـ 16 مليار دولار، هذا الرقم لا يشمل المبالغ الضخمة التي تبرع بها لأفراد أسرة زوجته، وستة أطفال له، وأخ غير شقيق، وأحفاده؛ إذ تمّ منح عائلته احتكارات عديدة، والتي لا يدفعون مقابلها شيئًا يذكر، واحتفظت زوجته تيان (المعروفة باسم سيدتي) بنسبة 10% من أرباح مطاحن بوغاساري، وهي الجهة المسؤولة عن استيراد القمح وطحنه، وسيطر ابنه (تومي) على تجارة القرنفل، وكانت ابنته (توتوت) تسيطر على أرباح الطرق العامة، أمّا ابنه الأصغر (بامبانج)، فيمتلك أسهمًا في جميع شركات الهواتف المحمولة، تمّ منح أفراد الأسرة الآخرين السيطرة على شبكات التلفزيون وأجزاء رئيسة أخرى من الاقتصاد؛ لذلك كلّ هؤلاء (الأبناء والبنات الشرفاء) نجحوا في الخروج من إندونيسيا، بينما عاش الملايين في فقر.

الجريدة الرسمية