السودان ومصر.. مصير فى مهب الريح
أنا واحد ضمن أجيال مصرية تربت على حقائق تاريخية مسلَّم بها، مصر والسودان كيان واحد، وكلاهما يكمل الآخر، ومستقبل كلا البلدين يرتبط بالآخر. وتربينا على أغنيات وأشعار وكتابات وقصص عن التلاحم بين الشعبين، وعشت مثل غيري على هذا التناغم الإنساني الذى يجمع البلدين والشعبين.
وعندما التحقت بالجامعة، تزاملنا مع رفاق من السودان الشقيق، شباب واعدون جاءوا إلى جامعة القاهرة يدرسون معنا فى كلية الإعلام، وقد تجاورنا فى السكن وتزاملنا فى المدرجات، وصارت بيننا حكايات كثيرة، والتقينا على حلم شق الطريق فى بلاط صاحبة الجلالة، وتدربنا معا بجريدة صوت الجامعة، وكانوا كما عهدناهم متفوقين فى الدراسة، وفى العمل كانوا فى المقدمة.
سافروا إلى بلادهم يشقون الطريق هناك، وعلى تواصل كنا دومًا، وكنا نتابع خطاهم فى الجنوب، وهم يتابعون خطانا هنا، وعملت وسائل التواصل «عَمْلِتها» وجمعتنا مرة أخرى، وطوى العمر صفحات كثيرة، ونحن كما كنا نعيش الواقع الذى تربينا عليه، وأخذت السياسة دورتها فى الخلافات بين قادة البلدين، وطالت حقبة الخلاف، غير أننا كنا ولا نزال نتلاقى فكريا وإنسانيا وعاطفيا مع أشقائنا الذين زاملونا، ورأينا وما زلنا نرى فيهم ما كنا نراه طوال عمرنا معا.
العلاقات المصرية السودانية
منذ فترة وأنا أتابع مثل غيرى مواقع إلكترونية سودانية أجد فيها متعة للكتابة العميقة لأقلام كثيرة، ربما يزعجنى كثيرا أن أطالع كتابات عن العلاقات المصرية السودانية تبدو لى محملة بما هو غير واقعى، غير أن ذلك كله يدخل فى دائرة حرية الصحافة التى أؤمن بها إيمانا مطلقا.
فى الآونة الأخيرة، لاحظت مثل غيرى أيضا أن اعتماد ما تلوكه مواقع التواصل الاجتماعى كمادة صحفية أصبح خطرا على الرسالة الصحفية التى يجب أن تلتزم معاييرها المتعارف عليها، الخلط بين الإعلام الاجتماعى والإعلام المحترف قضية خطيرة الأبعاد، ففى الوقت الذى يلتزم فيه الإعلامي المحترف بمجموعة من القواعد والمعايير وقيم النشر يخلو بال ممارس الإعلام الاجتماعى منها جميعا، بحكم الممارسة التى تحكمها الهواية بعيدا عن الاحترافية المفروضة على القائم بالاتصال المحترف.
أقول إن هناك ترديدًا لوقائع لا أصل لها ربما كانت دافعًا للسفير المصرى بالسودان حسام عيسى أن يخرج عن صمته ويتحدث عن حملات تستهدف بلاده دون أن يحدد الجهات التى تقف وراء ذلك. والحق أقول إننى طالعت العديد من الكتابات التى أطلقها أصحابها، ربما محكومين بحسن النوايا وربما على غير ذلك، باتوا أسرى ما تردده مواقع التواصل الاجتماعى التى لا يخفى على أحد كيف تدار، ولحساب مَن تدار، وما هى الأهداف التى ترغب فى تحقيقها.
وبعيدًا عن العواطف التى لا أستبعدها شخصيا فى علاقتى الإنسانية بالسودان الشقيق وشعبه الأبىِّ، فإن هناك شيئا ما يدار من خلف جدران العتمة مستهدفا ضرب العلاقات المصرية السودانية فى مقتل. سأذكر مثالا عشته وعايشته كصحفى مصرى، عندما كنا نطالب نظام مبارك باستيراد اللحوم الحية من السودان بدلا من أقطار أخرى، والعمل على خلق مساحات من المصالح المشتركة بين البلدين وزيادة حجم التبادل التجارى، وتنفيذ اتفاقية الحريات الأربعة بين البلدين.
كنت مثل غيرى نرى أننا نعيش فى وطن واحد، فإذا بى أطالع مقالا لزميل بصحيفة سودانية يطالب فيها بلاده بوقف تصدير اللحوم الحية إلى مصر، ويتبنى الملف باعتباره نهبا لثروات السودان. الأمثلة كثيرة، مثل وقف إصدار تأشيرات للسودانيين إلى مصر، وما تمارسه الأجهزة المصرية ضد السودانيين فى مصر من عمليات القبض عليهم وترحيلهم، وكلها وقائع من نبت خيال شيطانى لا أصل لها فى الواقع.
المثير أن بعض الكتابات تمنح وقائعها صيغة الثابت واليقينى دون إسناد إلى مصادر أو أحداث لها من الحقيقة ولو ظل يسير، وهو مع تكراره والإصرار عليه أمر مريب، ولا يصب فى صالح الشعبين.