تطوير أم تشريد يا حكومة
لا أجد مبررا لصمت الحكومة أمام صرخات أهالي الحى السادس والسابع بمدينة نصر، وعدم خروج مسئول لتبرير القرار الذى تم اتخاذه بإزالة المنطقتين، على الرغم من أنهما ليسا من المناطق غير الآمنة، أو يمثلان خطورة أمنية على الدولة أو السكان، وتم إنشاؤهما على طراز معماري محترم بمعرفة الحكومة فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
ولعل ما يدعو للأسف فى الصمت المريب للحكومة، انها فتحت الباب على مصراعيه لاتهامات جميعها تحتاج إلى أجوبة، أقلها أنها انتقلت من مرحلة بيع الأراضي الصحراوية إلى بيع العمران فى قلب القاهرة، ومن مرحلة تطوير المناطق غير الآمنة إلى مرحلة إزالة أحياء بأكملها تحت دعوى تطوير مبهم غير واضح المعالم أو الرؤى ولا يعرف الخبراء الهدف أو المغزى منه حتى الآن.
تضارب التصريحات
غير أن توجه الحكومة بدا أكثر غموضا، بعدما ادعت أن العقارات المستهدف إزالتها آيلة للسقوط، وإن قرار هدمها نهائي ولا رجعة فيه، وأن رئيس الوزراء سيصدر قرارا خلال أيام بنزع ملكيتها من أجل المنفعة العامة، فى الوقت الذى خرجت فيه تصريحات حكومية مخالفة على لسان كل من المدير التنفيذي لصندوق التنمية الحضرية، ورئيس تطوير العشوائيات بمحافظة القاهرة تكذب بشكل غير مباشر ما ادعته الحكومة من خطورة تلك العقارات، وتؤكد "إن المنطقة ليست من المناطق غير الآمنة أو غير المخططة".
لست بالطبع ضد التطوير أو التجميل التى اخذته حكومة الدكتور مصطفي مدبولي على عاتقها والذى يلقى إشادة من المصريين، غير أن الكارثة التى لم تدركها فى واقعة منطقتى الحي السادس والسابع، أنها تقدم على ضرب مفهوم الحيازة والملكية الخاصة التى كفلتها كافة قوانين ودساتير العالم فى مقتل، خاصة وأن المنطقتين المراد إزالتها ليست من المناطق غير الآمنة أو الخطرة، بل مساكن آمنة ومخططة وتحظى بملكيات شرعية ومُوثيقة، ومملوكة لطبقة متوسطة من المصريين لا طاقة لهم بتحمل أسعار المساكن عالية التكاليف التى تطرحها الحكومة فى المناطق العمرانية الجديد، أو تلك التى ستشيدها على أنقاض مساكنهم.
للأسف أن الحكومة لم تلتفت حين أعلنت عن إزالة المنطقة، انها تخالف العهد الذى قطعته على نفسها عند البدء فى تطوير وتجميل المناطق غير الأمنة، بعدم اللجوء للتهجير أو إخلاء المساكن إلا فى أضيق الحدود، وبعد دراسة كل البدائل المتاحة أو انعدمها، ودون المساس بأية مبانى مستقرة، بل والأخطر إنها تقدم على إزالة إسكان حكومي يحظى بوضع قانوني المفترض إنها الضامن الأول له، غير أنها بدلا من أن تضمن أمن السكان تركتهم تحت تهديد الطرد والتشريد دون وجود سبب مقنع.
تعويضات هزيلة
ولعل ما يدعو للعجب، أن الحكومة بدلا من أن تطرح بديلا محترما تحفظ به آدمية السكان، شرعت فى طرح قرارات فوقية فى صورة فرمانات واجبة النفاذ، تخيير السكان بين الانتقال لمساكن بديلة لا تتناسب وتركيبتهم الاجتماعية، أو القبول بتعويضات لا تزيد عن 40 ألف جنيه عن الغرفة الواحدة بالشقة.
أى أن الحكومة باختصار، قررت أن تمنح الساكن الذى يعيش فى شقة مستقرة الملكية والمرافق والخدمات ومكونة من غرفتين تعويض لا تزيد قيمته عن ال 80 الف جنيه، والذى يعيش فى شقة مكونة من 3 غرف لن يحصل سوى على تعويض قيمته 120 ألف جنيه، فى حين أن ثمن الشقة المتوسطة فى اى منطقة متوسطة فى مصر يقترب سعرها من المليون جنيه، ناهيك عن التعويضات المتدنية التى تطرحها الحكومة لأصحاب المحلات التجارية بالمنطقة، والتى لا تعنى بالنسبة لهم بالفعل سوى الضياع.
الواقع يقول انه ليس من حق الحكومة ولا يجوز لها بحكم مسئوليتها أمام الله عن هذا الشعب، السير فى عمليات تطوير وتخطيط فوقية، يترتب عليها تشريد آلاف الأسر المصرية واقتلاعهم من جذورها، وتبديل مشاعرهم من الانتماء لمصريتهم إلى عداء وكره للدولة، ودون التفكير فى القيام بدراسات الاجتماعية واقتصادية لتحديد الآثار المترتبة على قرارات الإزالة، ولاسيما وأنه يكاد يكون هناك إجماع من المتخصصين على أن العقارات المستهدف إزالتها مازالت تحتفظ بصلاحيتها ويمكن أن يمتد عمرها الافتراضي إلى المائة عام.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك عشرات الدول قد أقدمت على إزالة أحياء قديمة بأكملها وإعادة تطويرها، غير أن ذلك كان لأسباب تتعلق بسلامة العقارات وخطورتها على حياة قاطنيها، أو دواعى أمنية تتعلق بوجود بؤر إرهابية أو عنصرية تستدعى تفكيك المنطقة وإعادة تطويرها، أو اقتلاع الأحياء العشوائية بالعواصم والمدن الكبرى لتطويرها وإضفاء الطابع السياحى عليها، وجميعها أسباب لا ينطبق أى منها على منطقتى الحي السادس والسابع بمدينة نصر.
لا أعتقد أنه قد يسعد الدكتور مصطفي مدبولي أو وزراء حكومته تشريد المصريين، أو تبديل مشاعرهم بالانتماء للدولة، وأن الظرف العام يفرض عليهم ضرورة إعادة النظر في قرار نزع ملكية المنطقة وإزالتها، فإن رأوا - طبقا لدراسات متخصصة- شيئا من القبح فيها فليبدأوا فى تجميلها، وإن كان الأمر يحتم الإزالة من أجل مشروع قومى، فلا مانع من أن تتخلى الحكومة عن فوقيتها وتعلن ذلك بشفافية، مع تعويض المتضررين بشكل عادل يمكنهم من الانتقال بكرامة لمناطق بديلة تتناسب وتركيبتهم الاجتماعية، عملا بقول المولى عز وجل فى كتابه الحكيم: "وَلَا تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْاْ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ".. وكفى.