ديون مصر الخارجية
منذ فترة ليست بالقصيرة، والحديث لا يكاد ينقطع حول التصاعد المستمر في حجم ديون مصر الخارجية، والمخاوف من عدم قدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها تجاه أقساط تلك الديون، وتأثيراتها السلبية على الاقتصاد المصرى مستقبلا، مما خلف شكوك ومخاوف غير معلنة لدى قطاع عريض من المصريين باتت في حاجة إلى توضيح ومصارحة من الحكومة.
ولأننا هنا بصدد مناقشة قضية حيوية تتعلق بمستقبل البلاد والأجيال القادمة، فلا مفر من وضع الحقائق فى نصابها بكل ما تحتويه من ايجابيات وسلبيات، حيث تؤكد البيانات المعلنة من البنك المركزي المصري، أن ديون مصر الخارجية قد ارتفعت في يونيو الماضي إلى 137 مليارا و850 مليون دولار، منها 124.1 مليار دولار قروض طويلة الأجل، و13.7 مليار دولار ديون قصير الأجل.
وعلى الرغم الإرتفاع الكبير في حجم الدين، إلا أن الشفافية تحتم القول أن التزام الحكومة المصرية بالوفاء بالتزاماته وأقساط القروض الخارجية، جعل المؤسسات الاقتصادية العالمية تقر بأن الدين المصرى مازال في الحدود الآمنة، وجعل وكالة موديز للتصنيف الائتمانى تؤكد أن احتياطى مصر من النقد الأجنبي يكفي لتغطية متطلبات خدمة ديونها الخارجية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وهو ما أهل مصر أيضا للانضمام لمؤشر جي بي مورجان بعد غيبة دامت لأكثر من 10 سنوات، والتواجد من جديد على خريطة الاقتصاديات المستدامة، وضخ نحو مليار دولار استثمارات إضافية جديدة فى صورة أذون وسندات خزانة، إلى جانب تدفقات مالية بقيم تتراوح بين 1.4 و2.2 مليار دولار.
وعلى الرغم مما سبق، يكاد يكون هناك إجماع من الخبراء، على خطورة اندفاع الحكومة المصرية نحو التوسع في الاقتراض الخارجي بكافة صورة، ولاسيما وأن فوائد تلك القروض باتت تمثل ضغطا على الموازنة العامة للدولة، حيث تلتهم فى الوقت الحالى نحو 580 مليار جنيه تمثل نحو 32% من قيمة مصروفات الموازنة التى تبلغ نحو 1.8 تريليون جنيه، بعد أن إرتفعت قيمة فوائد القروض خلال 5 سنوات بنحو 143 مليار جنيه عما كانت عليه فى موازنة العام المالي 2017-2018.
ترشيد الإنفاق الحكومى
العقل يقول أن خطوات الحكومة المصرية القادمة نحو الاقتراض من الخارج يجب أن تكون محسوبة، خاصة أن التقارير الرسمية الصادرة عن وزارة المالية تؤكد وجود إرتفاع كبير فى عجز الموازنة خلال السنوات الأخيرة، حيث وصل إلى 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام المالي "يوليو – نوفمبر 2021" مقارنة بـ 3.2% بالفترة المناظرة من العام المالي 2020، كما بلغ قيمة العجز خلال تلك الفترة مايزيد عن 266 مليار جنيه، مُقارنة بما يزيد عن 204 مليارات جنيه الفترة المناظرة من العام المالي الماضي 2020-2021 الذى أنهت الحكومة موازنته بعجز بلغ 7.4 % من الناتج المحلي، مقارنة بـعجز بلغ 8% في مُوازنة العام المالي 2019-2020.
وعلى الرغم من أن الأرقام تؤكد تراجع نسبة الدين المصري من 108% من الناتج المحلي خلال عام 2016-2017 إلى 90.6 % بنهاية العام المالي 2020-2021، إلا أن تقارير وزارة المالية قد أكدت بشكل صريح وجود عجز كبير فى الموازنة، نتيجة لفجوة بين حجم الإيرادات الذى بلغ 6.5%، وزيادة المصروفات بنحو 16.1%.
فى الوقت الذى يجمع فيه الخبراء على استحالة نجاح الحكومة فى ما تطمح إليه من تحقيق عجزا كليا بنسبة 6.6% بموازنة العام المالي الحالى، فى ظل استمرار نهج الاقتراض الذى سيرهق الموازنة بمزيد من فوائد القروض الجديدة، وفي ظل احتياجات تمويلية محلية وخارجية تصل لنحو 1.068 تريليون جنيه، تمثل نحو 7.1% من الناتج المحلي المصري، وهو ما قد يضطر الحكومة لاتخاذ إجراءات اقتصادية تقلص بموجبها الدعم الموجه للأغلبية الفقيرة من المصريين، على ذات النهج الذى سارت عليه منذ بدء برنامج الإصلاح الاقتصادى فى عام 2016 وأرهق كاهل الفقراء.
وهو ما بدأت بوادره بالفعل بإقدام الحكومة منذ بداية يناير الحالي على رفع سعر الزيت التمويني 4 جنيهات للكيلو جرام الواحد، ورفع أسعار البنزين بواقع 25 قرشا للتر الواحد للمرة الثالثة خلال عام واحد، ورفع سعر الغاز الطبيعي للمصانع بواقع يتراوح بين 0.25 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية لمصانع الحديد والأسمنت والبتروكيماويات والأسمدة، وهو ما سينعكس بالتأكيد على ارتفاع أسعار تلك السلع في الأسواق المصرية.
ورغم اتفاق المؤسسات الاقتصادية العالمية على أن ديون مصر مازالت فى الحدود الآمنة، إلا أن لغة العقل تحتم على الحكومة ضرورة التمتع بالحكمة وعدم الاندفاع نحو جلب مزيدا من القروض الخارجية، خاصة في ظل الارتفاعات المتزايدة في معدلات التضخم في العالم، وجائحة كورونا، وإرتفاع أسعار النفط، وتأثر أسعار السلع الأساسية في الأسواق العالمية، وإلا فما هو قادم من قروض لن يزيد الموازنة إلا أعباء والفقراء إلا فقرا.. وكفى.