ما بين غمضة عين وانتباهتها!
حكى أحد الأطباء الذين يعملون بالخارج هذه القصة الحقيقية التى تحتوى على درس عظيم:
دخلنا إلى أحد المطاعم العربية فى لندن قبيل الغروب لتناول العشاء.. كان ذلك عام 2007.. وبعد أن جلسنا وجاء النادل لأخذ الطلبات.. أستاذنت من الضيوف لدقائق.. ثم عدت فسألنى أحدهم: أين ذهبت يا دكتور لقد تأخرتَ علينا كثيرًا؟ قلت: أعتذر.. كنت أصلى.
قال مبتسمًا: هل مازلت تُصلى؟ يا أخى أنت قديم جدًا! قلت مبتسمًا: قديم؟! لماذا؟ وهل أن الله موجود فقط فى الدول العربية؟ ألا يوجد الله فى لندن؟ فقال: دكتور أريد أن أسألك بعض الأسئلة، ولكن أرجوك تحملنى قليلًا برحابة صدرك المعهودة. قلت: بكل سرور ولكن لدى شرط واحد فقط. قال: تفضل. قلت: بعد أن أنتهى من الرد على أسئلتك عليك أن تعترف بالنصر أو الهزيمة.. موافق؟ قال: اتفقنا، وهذا وعد منى.
قلت: لنبدأ المناظرة.. تفضل.. قال: منذ متى وأنتَ تصلى؟ قلت: تعلمتها منذ أن كنت فى السابعة من عمرى وأتقنتها وأنا فى التاسعة، ولم أفارقها قط ولن أفارقها إن شاء الله تعالى إلى آخر يوم فى عمرى. قال: حسنًا.. وماذا لو أنك بعد الوفاة اكتشفت بأنه لا توجد جنة ولا نار ولا عقاب ولا ثواب فماذا ستفعل؟ قلت: سأتحملك وأكمل المناظرة معك حسب فرضيتك، ولنفرض أنه لا توجد جنة ولا نار ولا يوجد ثواب ولا عقاب. قال: وصلاتك التى واظبت عليها لعشرات السنين وستجد أن من صلى ومن لم يصلِ سواء، ولا يوجد شيء اسمه سقر؟ قلت: لن أندم عليها لأنها لم تأخذ منى سوى دقائق فى اليوم، وسأعتبرها رياضة جسدية.
قال: وصومك لا سيما أنت فى لندن والصوم هنا يصل إلى أكثر من 18 ساعة فى اليوم؟ قلت: سأعتبر صومى رياضة روحية فهو ترويض نفسى وروحى من الطراز الرفيع، وكذلك فيه منفعة صحية كبيرة أفادتنى فى حياتى وإليك تقارير دولية من جهات ليست دينية أصلًا أكدت أن الامتناع عن الطعام لفترة فيه منفعة كبيرة للجسد. قال: هل جربت الخمر؟ قلت: لم أذق طعمه أبدا. قال مستغربًا: أبدا؟! قلت: أبدا.
هزيمة ساحقة
قال: وماذا تقول عن حرمانك لنفسك فى هذه الحياة من لذة الخمر ومتعته ومتعة جلوسه بعد أن تكتشف صدق فرضيتى؟ قلت: أكون قد منعت وحصنت نفسى من ضرر الخمر الذى هو أكثر من نفعه.. فكم من مريض بسبب الخمور وكم من مدمر لبيته وأبنائه من آثار الخمور.. وانظر أيضا إلى التقارير الدولية من جهات غير دينية تحذر من آثار الخمور وآثار الإدمان عليها.
قال: والذهاب للحج والعمرة بعد أن تكتشف بعد الوفاة أنه لا يوجد شيء من هذا، وأن الله غير موجود أصلًا. قلت: سأسير حسب فرضيتك ووعدتك بأن أتحمل أسئلتك.. سأعتبر الذهاب إلى الحج والعمرة سفرة جميلة شعرت فيها بمتعة راقية ساهمت فى غسل وتنقية الروح كما تساهم سفرات أنت قمت بها من أجل قضاء وقت جميل لطرد ضغوط العمل وقتل الروتين وساهمت فى إنعاش روحك.
ظل ينظر إلى وجهى لثوانى صامتًا.. ثم قال: شكرًا لأنك تحملتنى برحابة صدر.. أسئلتى انتهت.. وأعترف لكَ بالهزيمة. قلت: ماذا تعتقد شعورى بعد أن اعترفت أنت بالهزيمة؟ قال: بالتأكيد أنت الآن سعيد جدًا. قلت: لا أبدًا.. على العكس تمامًا.. أنا حزينٌ جدًا. قال مستغربًا: حزين؟! لماذا؟! قلت: الآن جاء دورى لأن أسألك. قال: تفضل.
قلت: ليست لدى أسئلة عدة مثلك ولكن هو سؤال واحدٌ فقط لا غير وبسيط جدًا. قال: ما هو؟ قلت: بيّنت لك بأننى لن أخسر شيئًا فى حال حصلت فرضيتك أنت.. ولكن سؤالى الوحيد والبسيط.. ماذا لو عكسنا فرضيتك وأنك بعد الوفاة اكتشفت بأن الله تعالى فعلًا موجود، وأن جميع المشاهد التى وصفها الله تعالى فى القرآن الكريم موجودة حقًّا.. ماذا أنت فاعلٌ حينها؟ ظل ينظر إلى عينى ولم يحرك شفتيه وأطال النظر إلى صامتًا.. وقاطعنا النادل الذى أوصل الطعام إلى مائدتنا. فقلت له: لن أطلب الإجابة الآن.. لقد حضر الطعام.. لنأكل وعندما تكون إجابتك جاهزة من فضلك أخبرنى بها.
أنهينا الطعام ولم أحصل منه على إجابة ولم أحرجه وقتها بطلب الإجابة.. وغادرنا بصورة طبيعية جدًا. بعد شهر اتصل بى طالبًا منى اللقاء فى ذات المطعم، التقينا فى المطعم.. تصافحنا.. وإذا به يطوقنى بين ذراعيه واضعًا رأسه على كتفى وبدأ بالبكاء. وضعت ذراعى على ظهره وقلت له: ماذا بك؟ قال: جئت لأشكرك.. ودعوتك إلى هنا لأقول لك جوابى.. لقد رجعت إلى الصلاة بعد أن قطعتها لأكثر من عشرين عامًا..
كانت أجراس كلماتك ترن فى ذهنى ولم تتوقف.. لم أذق طعم النوم.. لقد أثرت بركانًا فى روحى وفى نفسى وفى جسدى.. وصدقنى.. شعرت بأننى إنسان آخر وأن روحًا جديدة بدأت تسير فى هذا الجسد مع راحة ضمير لا مثيل لها. قلت له: ربما تلك الأجراس أيقظت بصيرتك بعد أن خذلك بصرك. قال: هو ذاك تمامًا.. فعلًا.. أيقظت بصيرتى بعد أن خذلنى بصرى.. شكرًا لك من القلب أخى الحبيب.
سبحان الله.. فى لحظة فارقة فى حياتك، قد يسخر العلى القدير لك إذا كنت نظيف القلب.. من يكون سببًا فى هدايتك.
ما بين غمضة عين وانتباهتها.. يغير الله من حال إلى حال