وداعا مدرس "العربي" الذي صار وزيرا مرتين!
كان موعد الاحتفال قد حل وفعلها زحام القاهرة وقتها ووصلنا بعد الموعد.. دخلنا إلي القاعة بمبني الأوبرا الشهير.. الإضاءة خافتة حيث نبحث عن المقعد بينما صوت المتحدث يصل إلي الأذان.. خطفنا المتحدث المفوه ببلاغته وقدراته اللغوية المدهشة حتي توقفت عن البحث عن المقعد وذهب الانتباه كله للمتحدث الذي سيطر تماما علي القاعة وكأنها فقرة فنية رائعة..
كيف ذلك.. كيف يضع الرجل وهو يقف أمام الميكروفون الكلام بعد الكلام والجمل خلف الجمل والعبارات بعد العبارات بهذه الرشاقة وهذا الجمال بخطبة غير مكتوبة؟!.. كان هو.. الوزير السابق في يناير ٢٠١١ الذي بقي في منصبه أسبوعا بالتمام والكمال حتي عاد وزيرا للثقافة مرة أخري فيما بعد في ٢٠١٤ ليبقي أيضا عدة أشهر وكأن بينه وبين المناصب الوزارية موقف ما حتي رحل أول أمس.. كان المتحدث هو الدكتور جابر عصفور!
لم يستنكف الدكتور جابر عصفور مرات عديدة أن يروي قصة كفاحه، وكيف انتمي إلي أسرة فقيرة أنقذتهم مجانية التعليم الجامعي في الستينيات من جحيم المصروفات الدراسية، حتي تمكن من إنهاء الدراسة بتفوق وعلي كافة خريجي اللغة العربية في مصر كلها، لتطيح به منافسات أساتذة الجامعة من التعيين كمعيد!
ليعمل مدرسا بإحدي مدارس الفيوم، وهناك يدفعه الإحساس بالظلم ليشتكي إلي الزعيم جمال عبد الناصر الذي ينصفه بتأشيرة بخط يده، تذهب إلي التعليم العالي ومنه إلي الجامعة زلزلت قلاع الظلم وأنصفته ليشق بعدها طريقه في الوسطين العلمي والثقافي، وليصبح أحد معالم التنوير في بلادنا فارسا جسورا ضد كل صور الجهل والخرافة والتعصب.. لم يسع إلي منصب فطاردته المناصب ولم يلهث خلف تكريم أو جائزة فلاحقته الجوائز والتكريمات!
رحم الله الدكتور جابر عصفور.. القيمة الكبيرة الذي ترك بصمة كبيرة في الحياة المصرية والعربية وفرع أصيل في شجرة ضاربة بجذورها في التربة المصرية بدأت بطه حسين ومرت بسهير القلماوي وانتهت به!