حلم أصبح حقيقة.. إنقاذ الضلع الجنوبي للهرم الأكبر من التشويه بعد نقل مركب خوفو
تحققت المعجزة الهندسية على أرض الواقع، بعدما كانت حلمًا، ظل يراود كل من يقوم بزيارة المنطقة الأثرية بالهرم، ويتساءل: متى يتحقق الحلم بنقل مركب خوفو؟ ولكن من كان يملك الجرأة ليتخذ قرار إزالة هذا المبنى - الذي ظل على مدار عقود يشوه المنظر الجمالي للضلع الجنوبي للهرم الأكبر - ويخرج مركب خوفو سليمة من تحت أقبيته.
المعجزة تحققت بمغادرة مركب خوفو الأولى جدران مبنى ظلت حبيسة بداخله خمسة عقود، لتستقر داخل مقرها الجديد بالمتحف المصري الكبير، درة المتاحف وأعظم صرح حضاري ثقافي في القرن الحادي والعشرين في رحلة استغرقت 10 ساعات، ليتم بعد عقود من الزمن إعادة كشف الضلع الجنوبي للهرم، وإنقاذه من التشويه وهذه هي القصة:
توجيه القيادة السياسية
في إطار دعم القيادة السياسية لملفات وزارة السياحة والآثار، والتوجيه برفع كفاءة وتطوير المشروعات الأثرية والتراثية، التي بدورها تحقق المردود الإيجابي على السياحة المحلية والدولية، جاءت عملية نقل مركب الملك خوفو الأولى، من مقرها القديم بمنطقة أهرام الجيزة، لتستقر المركب في موقعها الجديد في مبنى متحف مراكب خوفو، بالمتحف المصري الكبير، لتحقق الإنجاز المبهر الذي قل أن يكون له مثيل في الدراسة والتجربة والتنفيذ، من أجل الحفاظ على أكبر وأقدم وأهم أثر عضوي، مصنوع من الخشب، في التاريخ الإنساني، هذه المركب التي يبلغ عمرها أكثر من 4600 عامًا، لعرضها بطريقة لائقة تتناسب مع قيمتها الأثرية والعلمية بالمتحف المصري الكبير.
عملية نقل معقدة وفريدة
يعد نقل مركب خوفو واحدًا من أهم المشروعات الهندسية الأثرية المعقدة والفريدة، فهي نتاج جهد وتعب ودراسة، وتخطيط وإعداد وعمل جاد، امتدت أكثر من ٣٠ شهرًا، بداية من تولي اللواء عاطف مفتاح المشرف العام على المتحف المصري الكبير والمنطقة المحيطة الدراسة من أكتوبر ٢٠١٨، وتم عرضها على القيادة السياسية، وصدر القرار في مايو ٢٠١٩ إلى أن تمت عملية النقل في أغسطس ٢٠٢١، فكانت التجارب التي تسبق عملية النقل الفعلية للمركب:
- التجربة الأولى في يونيو 2021، حيث تمت محاكاة لعملية نقل مركب الملك خوفو الأولى، إلى المتحف المصري الكبير، بواسطة العربة الذكية، والتي تم استقدامها خصيصًا من بلجيكا، لنقل المركب كقطعة واحدة، بعد حمايتها وتأمينها أثناء التحرك! واجتازت العربة - وبنجاح تام - كل التغيرات في المسار المحدد للتحرك، وتغلبت على كل المخاوف، وبرزت قدراتها على المناورة فى المنحنيات وفروق الارتفاعات، وهي تحمل أوزانًا تماثل وزن المركب الحقيقية، بالإضافة إلى الهيكل المعدني الواقي لها، وبنفس الأبعاد من ناحية الطول والعرض. وذلك تمهيدًا لعملية النقل النهائية.
- تجربة المحاكاة الثانية لعملية النقل يوليو 2021، حيث جرت وقائع تنفيذها على مدى ثلاثة أيام متتالية، (وذلك بدءًا من الساعة الثامنة صباح الثلاثاء 13 يوليو، وحتى فجر يوم الجمعة 16 يوليو)، وتمت بنجاح تام، حيث تم الاختبار الكامل لجميع مراحل النقل النهائية، مع تركيب أجهزة القياس الخاصة باختبار أداء العربة، وميول الطريق، وثبات الهيكل المعدني أعلاها؛ وذلك لضمان وصول المركب إلى المتحف بأمان تام، حيث تم اجتياز التجربة خلال ثلاثة أيام متوالية، وهو العمل المميز والدؤوب الذي أثبت كفاءة الجسور الرملية والكباري المعدنية الستة خارج وداخل المبنى، وكذلك أكد كفاءة العربة الذكية، وقدرتها المتميزة على المناورة والتكيف مع مصاعب الطرق.
- إلى أن تمت عملية النقل النهائية على مدار ٣ أيام متواصلة، انتهت بوصول مركب الملك خوفو الأولى في أغسطس 2021، وذلك بعد 48 ساعة من بدء عملية نقلها من مكان عرضها بمنطقة آثار الهرم، إلى المتحف المصري الكبير، فقد تمت عملية النقل بدقة شديدة، مع ضمان كافة سبل الحماية للمركب، والتي تم نقلها كقطعة واحدة، داخل هيكل معدني للحماية، وتم رفعها إلى العربة الذكية آلية التحكم عن بُعْد، لتستقر المركب في موقعها الجديد، في مبنى متحف مراكب خوفو بالمتحف المصري الكبير.
كيف تم اكتشاف المركب الأولى؟
يذكر أن اكتشاف حفرتي مركبي الملك خوفو جاءت بعد عام 1946، أثناء زيارة الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية لمصر برفقة الملك فاروق، وكان قد قام بزيارة أضلاع الهرم الأكبر الثلاثة الشمالي والشرقي والغربي، دون أن يتمكن من زيارة الضلع الجنوبي الرابع، نظرًا لوجود مجموعة من الكثبان الرملية الكثيفة، فوجه الملك فاروق وزارة الأشغال بالتنسيق مع إدارة المنطقة الأثرية برفع هذه الكثبان الرملية.
وتعرض ذلك المشروع لفترات متذبذبة من الاستمرار والتوقف حتى عام 1954، عندما أصدر الرئيس عبد الناصر قرارًا برفع الرمال من الضلع الجنوبي؛ ليسفر عن اكتشاف حُفَر مراكب الملك خوفو، ويتم الاستقرار على عمل مبنى فوق حفرة المركب الاولي، ليكون متحفًا خاصًّا للمركب الأولى.
وبناء على قرار القيادة السياسية والتوجيه بالالتزام بسلامة الأثر - حتى لو اقتضى الأمر عدم الالتزام بمصدر الفكرة - مع أخذ كافة الإجراءات العلمية الدقيقة، عرض الأمر على المراكز والشركات والمعاهد المتخصصة في مجال الآثار والترميم، للوصول لأفضل إمكانية لتحقيق سلامة الأثر والحفاظ على سلامته لمصر والإنسانية غير أنها أوصت جميعها بإبقاء المركب في موقعها القديم! على الرغم من خطورة ذلك على الأثر، وذلك لعدم وجود الاستعداد للمخاطرة بتحمل مسؤولية نقل المركب.
التصدي للمسؤولية
ومن جديد بدأ اللواء مهندس عاطف مفتاح -المشرف العام على المتحف المصري الكبير والمنطقة المحيطة- في دراسة الفكرة (أكتوبر ٢٠١٨)، ثم عرض ما انتهت إليه تفاصيل الدراسات الهندسية والأثرية لمشروع نقل مركب خوفو الأولى على القيادة السياسية (مايو 2019)، فجاءت الموافقة - بعد إحاطة الرؤية الواعية للقيادة السياسية بأهمية هذا المشروع- والتوجيه بالالتزام بسلامة الأثر، حتى لو اقتضى الأمر عدم الالتزام بمصدر الفكرة، مع أخذ كافة الإجراءات العلمية المتخصصة، والعرض على المراكز والشركات والمعاهد الخاصة من جديد؛ للوصول لأفضل إمكانية تحقق السلامة والحفاظ على المركب، بعدما أصبحت وسائل عرضه لا تواكب أساليب وطرق العرض المتحفية الحديثة، فضلًا عن تشويه المنظر الجمالي عند الضلع الجنوبي للهرم الأكبر، العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا السبع القديمة، ومن هنا كان لابد من تحمل المسؤولية الأثرية والوطنية، والتصدي للقيام بنقل هذا الأثر النادر حتى تمت عملية النقل بنجاح منقطع النظير.