51 عاما من النهضة
واحد وخمسون عاما مضت على تجربة نهضة عمان التى قادها الراحل العظيم السلطان قابوس بن سعيد، وجرت الأقدار ليكمل المسيرة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد.. كانت عمان قديما قد تجمدت فى مكانها، وتخلفت عن ركب الحضارة، فجاء السلطان قابوس الذى حصل على تعليم راق، وكم حلم لبلاده أن تخرج من هذا الجمود إلى مساحات رحبة من التطور الذى يليق بحضارتها وتاريخها التليد، آمن السلطان الجديد بالإنسان قبل أن يبحث فى ثروات بلاده، وظن -ولم يكن ظنه إثمًا- أن الرهان على المواطن العمانى هو الرهان الرابح.
بدأ فى إنشاء المدارس والجامعات ودور العلم، وأدار بحكمة بالغة ثروات عمان المحدودة، وقاد بحنكة واحدًا من أخطر وأهم مواقع الجغرافيا السياسية فى محيطه.. لم يغامر السلطان قابوس بمواقف بلاده، وظل ماضيا فى طريق الحياد الملتزم بأخلاق سياسية نادرا ما وجدتها فى عالم السياسة، وأصبح واقعيا صاحب لقب "الحكيم" الذى راق لخبراء السياسة أن يطلقوه عليه.
عمان.. الحياد الأعمق
أدار الرجل سفينة بلاده فى أحلك ساعات التاريخ العربى بمهارة وقدرة فائقة، فلم يخسر معركة فى حياته.. ويكتب السلطان الراحل فى سجل التاريخ أنه كان صاحب مواقف مستقلة فى أوقات الضباب السياسى التى غلفت جغرافيا العرب فى مناطق تاريخية متعددة، فلم يتخذ طوال حياته قرارا انفعاليا أو عصبيا، وكثيرا ما عاد المتعاركون إلى صواب رأيه بعد سنوات من القطيعة.
على مدار أكثر من عشرين عاما، كنت ضيفا سنويا على سلطنة عمان مع رفقة من كبار الصحفيين والكتاب والمثقفين، وفى كل مرة كنا نرى الجديد من البهاء والبناء ما يثير الإعجاب بتجربة عربية مدهشة. على أن أهم ما ميز تجربة عمان قدرة هذا الشعب الحضارية التى دفعته دفعا للتواصل الحضارى الحديث مع الإمساك بقوة بتاريخ وعادات وتقاليد جعلته قابضا على هويته العربية بامتياز.
ولم تتناقض مواقف السلطنة مع ما يمليه عليها موقعها الجغرافى الخطير، عمان دولة إسلامية ارتبطت تاريخيا بأفريقيا، وأطلت بأساطيلها التجارية القديمة على قارات العالم، وهى دولة إسلامية معتدلة لا تفرق بين المذاهب، وتربطها علاقات فى الإسهام الحضارى مع إيران أيضا.
خرج العرب من مصر بعد اتفاقية السلام عام ١٩٧٩م، وأخرجوها من ثوبها العربى، أو أرادوا ذلك إلا سلطنة عمان، ظلت عمان على عهدها بمصر إلى أن عاد العرب جميعا إلينا من بوابة عمان. خرج العرب جميعا من العراق بعد الغزو الأمريكى لبغداد إلا عمان، ظلت بسفارتها إلى جوار الشعب العراقى، حتى عاد العرب إليها من بوابة عمان.
إختلف العرب جميعهم مع إيران، وما زالوا، إلا عمان التى مارست وتحاول القيام بدور صانع السلام فى منطقة الخليج الملتهبة. مع أخبار المقاطعة بين قطر وعديد من الدول العربية ظلت عمان تمارس دورها المستقل ليعود الوئام إلى الأشقاء مرة أخرى.
أقول ذلك متذكرا أثناء حضورى تدشين سفير سلطنة عمان بالقاهرة عبد الله بن ناصر الحربى الصالون الثقافى للسلطنة بمصر «أسد البحارة العمانى أحمد بن ماجد». وقد دارت مناقشات ثقافية عميقة حول «بن ماجد» البحار العمانى الذى وضع أسس الإبحار العلمية المستخدمة حتى اليوم. الصالون الذى حضره نخبة من المثقفين ورؤساء تحرير الصحف المصرية.
فى التاريخ القديم ساد العمانيون البحار، ونشر تجار عمان رسالة الإسلام فى أقطار عديدة، وتوسعت إمبراطوريتهم بشكل كبير، واليوم يمضى السلطان هيثم بن طارق آل سعيد على نهج أجداده محافظا على استقلال القرار العمانى وتوافقه مع ما يمليه عليها موقعها لتظل عمان بوصلة السلام والتنمية والتوافق.