الخديوي إسماعيل وكيف يزور التاريخ؟!
تزايدت أصوات المطالبين برد الاعتبار للخديوي إسماعيل واعتباره -أو باعتباره- أحد بناة مصر الحديثة ! آخرهم أخي وصديقي العزيز وائل لطفي الكاتب المرموق، وقد قدموا جميعا حيثيات ذلك بعدد كبير مما اعتبروه إنجازات مهمة كان من غير المعقول أن نبقي بدونها، حتى طالبونا بالفعل أن نتخيل أنفسنا بدونها! مثل عدد من المصانع والبعثات التعليمية والأوبرا وحديقة الأسماك وفندق الماريوت!!
وبلغ الحماس للخديوي إسماعيل حد مهاجمة من يهاجمونه ووصف حملاتهم ضده بأوصاف حادة منها "تزييف تاريخ الرجل" و"تضليل وعي الناس"! مستندين على كتاب واحد هو "عصر إسماعيل" للكاتب الكبير عبد الرحمن الرافعي!!
وفي الحقيقة ومع إسماعيل تحديدا وبمراجعة بسيطة وسريعة لعناوين موضوعات عشرات الحلقات التلفزيونية يتأكد أن العكس هو الصحيح.. إذ إن صوت أنصار الخديوي إسماعيل وعصور الاحتلال الأجنبي كله هو الأعلى رغم قلة عددهم.. وهم النافذون إعلاميا من لميس جابر إلى يوسف زيدان ومن وسيم السيسي إلى -حتى- الدكتورة درية شرف الدين التي طالبت برد الاعتبار لإسماعيل في يوم تهنئة الرئيس السيسي لأبطال هيئة قناة السويس ممن نجحوا في تحريك السفينة الجانحة قبل شهور!!
دون مراعاة أن يوم بطولة تحدث فيه الرجل الذي قدم لمصر "القناة الجديدة" أن نختاره لمدح الرجل الذي باع أسهم القناة!! وسلمها على طبق من ذهب لأعداء مصر.. وأين؟ على شاشة تلفزيون الدولة المصرية!
كلام فى البعثات
وبعيدا عن ملل إعادة عناوين الموضوعات الصحفية التي تتحدث عن الخديوى إسماعيل وجمال إسماعيل وذكاء إسماعيل في الصحف المصرية ومعها الأفلام التسجيلية عنه وعن قصوره.. إذ إننا هنا.. في هذه السطور قد قصدنا فقط أن نرد على الملاحظة الشكلية في التربص بتاريخ الخديوى إسماعيل التي يتحدثون عنها.. إذ إننا سنرد في الموضوع نفسه يوم ٢٥ القادم، وهي ذكري بيع قناة السويس، والتي يحاولون تبسيطها بأنها سددت عبر "عقود قليلة" أي عبرعشرات السنين!!
عادي يعني.. دون أي تعرض لمعاناة الشعب المصري بسبب ذلك وكم تساوي بأسعار اليوم، وهل كانت بسبب المصانع التي أنشأها الخديوى إسماعيل أم بسبب مجون إلي حد الجنون وسفه لا مثيل له وغراميات بلغت حد الأساطير من أجل عيون إمبراطورة جميلة!
حتي البعثات التعليمية والحديث عنها مجردا دون قراءة لمضمونها وشكلها ونسبة المصريين فيها ونسبة أبناء عامة الشعب من المصريين فيها يعد تبسيطا للأمور يبعدنا عن الحقيقة.. إلي درجة أن مفكرين وباحثين كبار وفي مراجع مهمة منهم محمد خيري حربي في كتابه "تطور التربية والتعليم في إقليم مصر في القرن العشرين" وجرجس سلامة في كتابه "أثر الإحتلال البريطاني في التعليم القومي في مصر" وكتاب "تاريخ التعليم في عصر محمد علي" لأحمد عزت عبد الكريم وملاحظاتهم علي التعليم والبعثات في هذه الفترات..
وصولا للمفكر الكبير أنور عبد الملك الذي وبعد شرح البعثات وتنوعها يصل إلي الخلاصة ويقول: (وهكذا كان نصيب "الذوات" والأجانب على اختلافهم القيادة.. ونصيب أبناء الشعب أن يتولوا العمل في دوواوين الحكومة) يقصد قيادة الدولة والجيش في يد الأجانب الشراكسة وغيرهم وبين الأعمال الإدارية والفنية للمصريين!
ولذلك حتى الحديث عن البعثات التعليمية هكذا يحتاج إلي قراءة عميقة ستصل بنا إلي حقائق محزنة! علي كل حال موعدنا يوم ٢٥ في مقال بالحقائق منقولة عن الرافعي نفسه وغيره من كبار المؤرخين والمفكرين، وعما أنفقه الخديوي إسماعيل علي الإمبراطورة أوجيني من مال شعبنا المسكين المجني عليه الحقيقي، وكيف انتهي سلوك الخديوي إسماعيل ببلادنا إلى الاحتلال البريطاني الذي جاء بعد الوزراء الأجانب في الحكومة التي من المفترض إنها مصرية ومن قبله صندوق الديون ثم بيع أسهم القناة كمقدمات لاحتلال دام أكثر من سبعين عاما كانت خصما -طبعا- من عمر مصر وشعبها !!
مذكرات نبيل فرنسي
ما جري طول نصف قرن هو تزييف لإسماعيل وعصره وليس العكس.. ومع شعب لديه حساسية خاصة ضد كل من يفرطون في كرامة واستقلال الوطن وفي ثروته وممتلكاته! ولذلك ليس هناك أفضل من أن نختتم ردنا اليوم بما كتبه الراحل الكبير -الوفدي بالمناسبة- جمال بدوي في كتابه الممتع "محمد علي وأولاده" صفحة 231 نقلا عن مذكرات النبيل الفرنسي "الكونت دي لا فيزون" فيقول: وقد دعا الخديوي إسماعيل إلى الغداء بقصره بأحد ضواحي باريس.. كان النبيل يمر بأزمة مالية ومع ذلك كان قصره فريدا فخيما عظيما لا مثيل له.. حتى إن إسماعيل أبدى دهشته من وجود قصر كهذا مع أحد غير الملوك والأمراء.. وبينما هو مع الكونت دي لا فيزون في غرفة التدخين فيباغته ويسأله: هل تريد بيع هذا القصر العظيم؟!
شعر صاحب القصر بالحرج.. فهو صحيح في أزمة مالية.. لكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يبيع القصر لأنه لا يستطيع الاستغناء عنه.. ففكر في حيلة أراد بها الهروب من الأمر.. وبينما كان قدر ثمن القصر في حدود المليون ونصف المليون فرنك بأسعار وقتها (النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، لكنه بالغ جدا في السعر وقال إنه يمكن أن يبيعه بسعر خمسة ملايين فرنك! فرد إسماعيل وقال: وأنا اشتريت بهذا المبلغ..
وحرر على الفور حوالة بالمبلغ على أحد البنوك الفرنسية.. لكنه قبل أن يختتم توقيعاته رأى ابنة صاحب القصر وكانت في الخامسة عشرة من عمرها فائقة الجمال.. فالتفت إلى أبيها وقال: ربما لا تمانع إن حررت أوراق البيع باسم هذه الجميلة.. حتي لا يقال إني چئت فجردتكم من قصركم!"
وهكذا انتقل القصر من الأب إلى ابنته وحصل على الخمسة ملايين فرنك! بقيمتها في حدود عام 1870 مثلا أي ما يعادل قيمتها اليوم ألف مرة مثلا بينما شعبنا بين جوع ومرض وحفاء!!
إحياء التعصب لمصر هو الحل.. وليكن ما يقدم لشعبها هو المعيار الوحيد للحكم علي أي حاكم وليس ما تساقط عرضا من بقايا ملذاتهم!