وزير الأوقاف: التعايش السلمي بين الأديان لا يعني ذوبان أي دين في آخر
أكد وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة، أن من أخطر القضايا التي لعبت عليها أو بها جماعات أهل الشر "تصرفات الحاكم" سواء بالافتئات عليها أم بمحاولة تشويه تصرفاته ولو كان في عدل سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
تجديد الخطاب الديني
وأضاف في كلمته بالمؤتمر العلمي الأول لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية " تجديد الخطاب الديني": وقد أدرك علماؤنا القدماء طبيعة الفرق بين ما هو من اختصاص الحاكم وما هو من اختصاص العالم، وفرقوا بدقة بين ما تصرف فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) بصفة النبوة والرسالة من شئون العقائد والعبادات والقيم والأخلاق.
وزير الأوقاف
وإلى نص كلمة وزير الأوقاف:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فألخص حديثي مع حضراتكم في عدة نقاط أساسية:
أولا: أن التجديد الذي ننشده هو التجديد المنضبط بضوابط الشرع، القائم على إعمال العقل في فهم صحيح النص في ضوء معطيات الواقع مع الحفاظ على ثوابت الشرع الحنيف، وأن هناك أمرين في غاية الخطورة قد أضرا بالخطاب الديني، وبصورة الإسلام والمسلمين هما الجهل والمغالطة، أما الأول فداء يجب مداواته بالعلم، وأما الثاني فداء خطير يحتاج إلى تعرية أصحابه وكشف ما وراء مغالطاتهم من عمالة أو متاجرة بالدين.
ومن أخطر القضايا التي لعبت عليها أو بها جماعات أهل الشر "تصرفات الحاكم" سواء بالافتئات عليها أم بمحاولة تشويه تصرفاته ولو كان في عدل سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
اختصاص الحاكم
وقد أدرك علماؤنا القدماء طبيعة الفرق بين ما هو من اختصاص الحاكم وما هو من اختصاص العالم، وفرقوا بدقة بين ما تصرف فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) بصفة النبوة والرسالة من شئون العقائد والعبادات والقيم والأخلاق، وما تصرف فيه (صلى الله عليه وسلم) باعتبار الحكم أو القضاء، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن نبيا ورسولا فحسب، إنما كان نبيا ورسولا وحاكما وقاضيا وقائدًا عسكريًّا.
فما تصرف (صلى الله عليه وسلم) فيه باعتباره حاكمًا أو قائدًا عسكريًّا أو قاضيًا بقي من شروط وضرورات التصرف فيه توفر الصفة الأخرى وهي كون المتصرف حاكمًا أو قائدًا عسكريًّا أو قاضيًا بحسب الأحوال.
ومما تصرف فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) باعتباره رسولًا وحاكمًا معا قوله (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ )، يقول الإمام أبو حنيفة (رحمه الله): "هذا منه (صلى الله عليه وسلم) تصرف بالإمامة – أي بصفته حاكمًا- فلا يجوز لأحد أن يحيي أرضًا إلا بإذن الإمام، لأن فيه تمليكًا، فأشبه الإقطاعات، والإقطاع يتوقف على إذن الإمام فكذلك الإحياء".
ومن أهم القضايا التي ترجع إلى رأي الحاكم لا إلى رأي القاضي ولا رأي العالم ولا أحد غير الحاكم قضية إعلان حالات الحرب والسلم المعبر عنها في كتب الفقه بالجهاد الذي هو بمعنى القتال والذي شُرّع للدفاع عن الأوطان والدول أن تستباح، فليس لآحاد الناس أو لحزب أو لجماعة أو لفصيل أو لقبيلة إعلان هذا الجهاد، إنما هو حق لولي الأمر وفق ما يقرره الدستور والقانون لكل دولة.
ثانيا: أن جماعات التطرف عكست القواعد العامة فجعلت التحريم أصلا والحلَّ استثناءً، غير مدركين أنهم يعقدون على الناس أمور حياتهم، مع أن الأصل في الأمور الإباحة، وأن التحريم لا يثبت إلا بدليل، فالإباحة لا تحتاج إلى دليل كونها الأصل، والتحريم هو الذي يحتاج إلى دليل كونه الاستثناء، يقول الحق سبحانه: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ الله فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَتَكَلَّفُوهَا رَحْمَةً مِنَ اللهِ فَاقْبَلُوهَا)، وعَنْ سَلْمَانَ (رضي الله عنه) قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنِ السَّمْنِ وَالجُبْنِ وَالفِرَاءِ؟ فَقَالَ: "الحَلَالُ مَا أَحَلَّ الله فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ الله فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ".
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ"، وَتَلَا: "قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
ثالثا: إن إطلاق كلمة عالم على شخص لم يستوف مقومات العلم ولَم يمتلك أدواته أمر في غاية الخطورة، ربما يصل إلى حد الجناية على العلم أو في حقه، العالم عالم، والفقيه فقيه، والمؤرخ مؤرخ، والواعظ واعظ، والنسابة نسابة، وقد ظهر على مدار تاريخنا الطويل طوائف من الوعاظ، والوعاظ البكائين، ومن القصاص، والحكائين، والمنشدين، والقراء، وقد ميز عصورهم أن ظل العالم عالما، والفقيه فقيها، والواعظ واعظا، والقارئ قارئا، والكاتب كاتبًا، والمنشد منشدًا، لم يتقمص أحد منهم شخصية غيره ولَم يحاول أن يغتصب دوره، وعرف الناس قدر هذا وذاك، وطلب كل منهم من يحب، فمن أراد العلم لزم مجالس العلماء، ومن استهواه الوعظ صار خلف الوعاظ، ومن أطربه الإنشاد ارتاد حلقات المنشدين.
فالبون شاسع بين الوعظ والفتوى، فالوعظ قائم على استنهاض الروح الإيمانية، والفتوى قائمة على البيان، والقضاء قائم على التحري، وتصرف ولي الأمر قائم على مراعاة المصلحة ودرء المفسدة.
وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه كما نقله عنه الزيلعي في "نصب الراية" أن شابًّا شكا إلى علي (رضي الله عنه) نَفَرًا فقال: إنَّ هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر، فعادوا ولم يَعُدْ أبي! فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما تَرَك شيئًا، وكان معه مال كثير، وترافَعْنا إلى شُرَيح فاستَحلفَهم وخلَّى سبيلَهم.
فدعا علي بالشُّرَط فوكَلَ بكل رجلٍ رجلين، وأوصاهم أن لا يمكِّنوا بعضَهم يدنو من بعض، ولا يمكِّنوا أحدًا يُكلِّمُهم، ودعا كاتبَه، ودعا أحدَهم فقال، أخبرني عن أبي هذا الفتى: أيَّ يوم خرج معكم؟ وفي أيِّ منزلٍ نزلتم؟ وكيف كان سَيْرُكم؟ وبأيِّ علَّةٍ مات؟ وكيف أُصيبَ بمالِه؟ وسأله عمَّن غسَّلَه ودفَنَه! ومن توَّلى الصلاةَ عليه؛ وأين دُفنَ؟ ونحوِ ذلك، والكاتبُ يكتُب، ثم كبَّرَ على - رضي الله عنه - وكبَّر الحاضرون، والمتَّهمُون لا عِلْمَ لهم إلَّا أنهم ظنُّوا أن صاحبَهم قد أقرَّ عليهم.
ثم دعا آخَرَ بعد أن غيَّب الأوّل عن مجلسه، فسأله كما سأل صاحبَه، ثم الآخَرَ كذلك، حتى عَرَف ما عند الجميع، فوجَدَ كلَّ واحدِ منهم يُخبر بضدِّ ما أخبرنا به صاحبُه، ثم أمَرَ بردِّ الأول فقال: يا عدوَّ الله قد عرفتُ غَدْرَك وكذِبَك بما سمعتُ من أصحابك، وما يُنجيك من العقوبة إلَّا الصدق، ثم أمَرَ به إلى السجن، وكبَّر وكبَّر معه الحاضرون، فلما أبصر القوم الحالَ لم يَشكُّوا أن صاحبَهم قد أقرَّ عليهم.
فدعا آخَرَ منهم فهدَّده فقال: يا أمير المؤمنين واللهِ لقد كنتُ كارهًا لما صنعوا ثم دعا الجميع فأقرُّوا بالقصَّة، واستدعى الأول الذي في السجن وقال له: قد أقرَّ أصحابك، ولا يُنجيك سوى الصدق، فأقرَّ بكل ما أقرَّ به القوم، فأغرَمهم المال، وأقادَ منهم بالقتيل".
رابعا: أن الأصل في الإسلام هو السلام والتعايش السلمي بين البشر،فلا إكراه في الدين ولا على الدين، ولا قتل على المعتقد، ولا تمييز بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين أو اللون أو الجنس أو العرق أو اللغة أو القبلية، إنما هي حقوق وواجبات على نحو ما رسخته وثيقة المدينة المنورة من أسس التعايش بين أهل المدينة جميعًا على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، حيث يقول الحق سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، ويقول سبحانه:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، ويقول سبحانه: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}، فمهمة العلماء والفقهاء البلاغ، أما أمر الهداية فمن الله وحده.
على أن هذا التعايش الذي ننشده لا يعني أبدا التنازل عن أي من ثوابتنا الشرعية أو ذوبان أي دين في دين آخر أو النيل من الأديان أو أي منها أو التجني عليها أو على أصحابها أو اتهام أي دين منها بالتطرف أو الإرهاب، فالإرهاب إرهاب البشر لا إرهاب الأديان.