محافظ صاحب قرار
تقف مصلوبة تحت حر الشمس لمواجهة أعباء الحياة بعد أن فقد زوجها القدرة على العمل تحت سيطرة المرض، لديها طفلان وتسعى لتعليمهما، تبيع بعض تفاصيل البيوت فوق أحد كباري المشاة.. أعرفها جيدًا، وعادة ما أتجاذب معها أطراف الحوار للتعرف من قرب على تفاصيل تسحقها وأخرى تبعث في نفسها الأمل، ذَهَبَتْ لدفع جزء من مصروفات الدراسة، غير أنها عادت بحالة اكتئاب أشد قسوة من الأيام.
قال لها المدير إن عليها أن تدفع ألفي جنيه، وهي لا تملك إلا سبعمائة جنيه، طلبت من المدير تقسيط المبلغ، أخطرها بكل قسوة أنه لن يسلم الكتب لابنيها حتى تدفع كامل المطلوب.. عادت إليه مرة أخرى لتشرح له أن كل رأسمالها خمسمائة جنيه تشتري وتبيع بها، تتاجر لتربح قروشًا قليلة تساعدها في مواجهة أعباء الحياة، طلب منها المدير أن تبيع كل بضاعتها وتسلمه المبلغ كاملًا.
في اليوم التالي، وفي أثناء متابعتي أكثر الأخبار مقروئية على المواقع الإلكترونية، كان الخبر الذي حظي بأعلى نسبة من القراءة «محافظ جنوب سيناء يأمر بتسليم الكتب لكل التلاميذ معلنًا أنه متكفل بدفع مصروفات من ليست لديه القدرة على الدفع».. لم يكتفِ الوزير المحافظ بقراره، بل أعلن أنه سيحاسب كل من يعيق تسليم الكتب للتلاميذ، مؤكدًا أن التعليم حق لكل مواطن، وأنه يجب محاسبة أي مسؤول يمتنع عن تسليم الكتب للأولاد.
سباق غلظة
تعليقات العامة على المنشور في جميع المواقع تصف الرجل بأنه صاحب قرار، وأنه إنسان، وأنه غير كل المحافظين.. منهم من توجه بالدعاء له بالستر والعافية، ومنهم من وصفه بالمحافظ الشجاع، ومنهم من أسبغ عليه صفات الصالحين.
بقرار واحد وصل اللواء خالد فودة إلى قلوب البسطاء، وتمكن من حبهم وسكن قلوب الناس، بقرار حمل بين طياته ملامح إنسانية لمسؤول «صاحب قرار» و«صاحب ضمير» و«صاحب خلق كريم».. بقرار واحد استطاع الرجل أن يمحو من نفوس غير القادرين على دفع المصروفات عبء الإحساس بالعجز وعبء المسؤولية المرهقة، في زمن أصبح كل شيء فيه بثمن، حتى أحلام البسطاء.
في الوقت الذي تبارى فيه محافظون في سباق الغلظة وعدم تسليم الكتب قبل دفع المصروفات، وفي الوقت الذي يمارس فيه وزير التعليم غلظة أكبر مع غير القادرين على الدفع، كان خالد فودة بمنزلة الماء الطهور الذي غسل عار الحكومة.
أعود إلى السيدة صاحبة «الفرشة» على أحد كباري المشاة، والتي طلب منها مدير المدرسة في القاهرة بيع كل أصولها لدفع المتبقي من المصروفات، وأحيل الأمر إلى الضمير الإنساني المفقود داخل مدارسنا.
قليل من الرحمة تكفي، وتصريح مسؤول واحد في حكومة تضم وزراء ومسؤولين ومديرين ونظار ومدرسين يغسل عار الهزيمة النفسية، ويتحول إلى بطل قومي.. بتصريح واحد، وبقرار واحد.
تعليم مجاني
الفارق بين المسؤول السياسي والمسؤول القادم من البروج العاجية كبير للغاية، فالأول يعرف كيف يسوس الناس، والآخر يعرف كيف يخلق الأزمات بصدام غير إنساني مع الجماهير.. الأول يعيش مع الناس أزماتهم، والثاني يسكن في واد غير وديان الزحمة والفقر والعوز والحاجة. الأول يدرك أن دوره التخفيف عن الناس، والثاني لا يعرف إلا نفسه.. حافظ مش فاهم!
خالد فودة يصبح أيقونة مع الناس، والآخرون يتحولون إلى قنابل موقوتة ضد الاستقرار والهدوء والبناء والتنمية، الناس في حاجة إلى من يتفهم أوضاعهم وظروفهم، خصوصًا في المسائل الحتمية، والتعليم مثل الماء والهواء لا احتكار فيه ولا تجارة.
التعليم يا كبار القوم ليس ترفيهًا، التعليم هو الطريق ضد الجهل والتخلف والفقر، التعليم هو درجات السلم التي يستطيع من خلالها المرء تغيير حياته والانضمام إلى عناصر البناء والتنمية في البلاد.. في الدول الرأسمالية لا يزال التعليم مجانيًّا، التعليم في ألمانيا بالمجان، وفي فرنسا بالمجان، وفي كل الدول التي تقدمت لا يزال التعليم مجانيًّا والحيلولة بين الناس والنور ظلم كبير للوطن.
المثير أن معظم من هم في مصر؛ وزراء ومديرون ومحافظون، حظوا بتعليم مجاني، فكيف تغيروا وكيف فقدوا ضمائرهم، وهم الذين تعلموا على حساب الناس؟!