أسرار صراع السودان وتأثيره على مصر.. لماذا قال البرهان إن الدولة في خطر؟
استفاق السودان خلال الساعات الأولى من فجر اليوم الإثنين، على حملة اعتقالات واسعة ضد أعضاء ينتمون للمكون المدني، ووزراء في حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وصلت إلى حد تداول أنباء غير مؤكدة حول وضع رئيس الحكومة قيد الإقامة الجبرية.
وسط خضم حملة الاعتقالات وانتشار الجيش في الشوارع مع اتخاذ تدابير احترازية شملت قطع الإنترنت حسب ما أعلنت جهات غير رسمية، خرج رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، بصفته الحاكم الفعلي للدولة التى تمنحها له صلاحيات رئاسة مجلس السيادة، وأعلن عدة قرارات بعد كلمة أكد في مستهلها أن الدولة في خطر، وعلى إثر ذلك أخذ سلسلة قرارات شملت ما يلي، إعلان حالة الطوارئ في عموم البلاد؛ التمسك بالوثيقة الدستورية واتفاقية سلام جوبا؛ تعليق العمل ببعض المواد (١١، ١٢، ١٥، ١٦، ٧١، ٧٢ ) في الوثيقة الدستورية؛ الالتزام بالمواثيق الدولية؛ حل مجلس السيادة؛ حل مجلس الوزراء؛ إعفاء ولاة الولايات؛ تكليف وكلاء الوزارات بتسيير الوزارات؛ تجميد عمل لجنة إزالة التمكين؛ تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة؛ إشراك شباب وشابات الثورة في البرلمان الانتقالي؛ وأخيرا تقديم الدعوة لـ عبد العزيز الحلو قائد الجبهة الشعبية شمال لتحرير السودان -يرفض الانضمام لأي معاهدات مشترطا فرض العلمانية فى البلاد وإلغاء الشريعة الإسلامية-، وعبد الواحد محمد نور - رئيس حركة وجيش تحرير السودان -، للانضمام لركب السلام تماشيًا مع اتفاق جوبا الذي ترعاه جنوب السودان.
كما تعهد البرهان التزام القوات المسلحة بـ"الانتقال الديمقراطي" حتى تسليم الحكم للمدنيين من خلال انتخابات عامة.
اعتصام واشتباكات
على إثر كلمة عبد الفتاح البرهان، أفادت تقارير بوقوع اشتباكات بين متظاهرين معارضين للخطوة التي تصفها بـ"الانقلاب العسكري" والأمن أمام مقر الجيش السوداني ووقوع إصابات.
وأظهر مقطع فيديو متداول – لم يتسن التأكد من صحته - محتجين يركضون فيما يسمع دوي إطلاق نار أمام مقر قيادة الجيش فى العاصمة "الخرطوم"، وسط أنباء عن سقوط مصابين.
الانفجار السياسي الذي وقع وقت الفجر، ربما يكون أمرا مفاجئًا للمواطن العربي لكنه نتيجة طبيعية لصراع مكتوم داخل الدولة بين الأمن القومي والولاءات الخارجية، فالدولة التي ظلت لمدة ثلاثة عقود تحت حكم الرئيس المعزول عمر البشير – أطيح به في ثورة شعبية أبريل 2019 - فقدت الهوية السياسية ومع إزاحته عن الحكم وتشكيل ما يسمى "مجلس السيادة" وجدت قوى خارجية فرصة مواتية لاختراق الدولة عبر وكلاء في مناصب تنفيذية، صحيح أن السواد الأعظم بين أعضاء المجلس يدينون بالولاء للوطن، لكن القلة المندسة باتت تملك نفوذًا مرعبًا في ظل حالة الانقسام الحاد والأزمات الداخلية مع الحركات المسلحة، والصراعات الخارجية وأبرزها مع الجارة المزعجة إثيوبيا التي باتت عنوانا لقلق السودان على صعيد الأرض من خلال تمسكها بأرض "الفشقة" التي تركها البشير لأديس أبابا طواعية، مقابل حمايته داخل الاتحاد الأفريقي على جريمة محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، وضمانة عدم تسليمه للجنائية الدولية على خلفية مجازر دارفور.
الدور الإثيوبي
الجارة المزعجة – إثيوبيا - والملفات الشائكة معها وخصوصا أرض الفشقة – الصغرى والكبرى - فتحت أبواب الوطن للتدخلات الخارجية مستهدفة الإطاحة برموز عسكرية خصوصا عبد الفتاح البرهان، الذي أفسد عرضا قدمته دول عربية لتقسيم الأرض الخصبة في الفشقتين، تحصل بموجبه على نصف الأرض لإقامة مشاريع زراعية وتنموية بالشراكة مع إسرائيل، وحصول إثيوبيا على حصة تؤمن مصالح رئيس الوزراء آبى أحمد الذي اعتبر الأرض هدية للأمهرا مقابل حماية نظامه والقتال إلى جواره لجبهة التيجراي التى تؤرق أركان حكمه داخليا وخارجيا، وأخيرا جزء من الأرض يعادل الربع لصالح السودان، واشتملت المبادرة التى قتلها رفض البرهان، ضرورة مباركة السودان لبناء سد النهضة مقابل الحصول على الكهرباء وفتح خزائن المؤسسات الدولية الاقتصادية المانحة لإنقاذ وطن أوشك أن ينهار اقتصاديًّا.
منذ رفض عبد الفتاح البرهان، حسب مصدر سوداني مطلع تحدث لـ"فيتو"، باتت هذه القوى الخارجية تعتمد سياسة الأرض المحروقة ودخلت معها تركيا على خط تفخيخ الداخل بعد رفض القوات المسلحة السودانية، تمرير اتفاق سواكن لإنشاء قاعدة عسكرية، ولا يستبعد في هذا المنحى الدور الروسي بعد مطالبة الجيش السوداني للجانب الروسي بسحب قواته من قاعدة منحها لموسكو نظام البشير في ميناء بورتسودان تسمى “قاعدة فلامنجو”، واعتبر المصدر أن تعنت موسكو في ملف سد النهضة وانحيازها لإثيوبيا سببه المباشر فشل مشروع قاعدة بورتسودان التي تمثل حلمًا لموسكو بهدف تمديد نفوذها العسكري على سواحل البحر الأحمر.
انفصال الشرق
وسط هذه الإشكاليات وأبواب الدولة المفتوحة على مصرعيها، بدأت تتمدد بقعة النزاع ودخل شرق السودان حاملا نزعة انفصالية عن الدولة تغذيها تقارير خارجية بهدف حبس الوطن بعيدا عن سواحل البحر الأحمر، ليزيد الجراح في دولة أصبحت ترقد على طاولة تشريح دولي تتنازع عليها مشاريع دولية وإقليمية ويريد كل طرف الحصول على حصته، بعدما وجد في النزاعات الداخلية والخارجية فرصة مواتية لتجنيد نفوس ضعيفة مستعدة لبيع الوطن وحمل أجندة خارجية مقابل حفنة دولارات.
هذه المعادلة المعقدة والتي ظهرت جليا فى التصريحات المتضاربة بين المكون المدني والمكون العسكري، مع الفشل في إقناع تيارات معارضة مسلحة لاتفاق سلام جوبا التي ولدت إبان عهد البشير خصوصا الحركة الشعبية شمال، التي يتعنت قائدها عبد العزيز الحلو في الإنضمام للاتفاق يعاونه عبد الواحد نور، فتحت مسام البلاد لتدخل المخابرات الإثيوبية في الصراع الداخلى وكشف مؤخرًا عن زيارة وفد استخباراتى حصلت "فيتو" سابقًا على معلومات بكامل تفاصيله، وهدف اللقاء السري لتأمين احتياجات الحركة من السلاح والأموال مقابل حماية سد النهضة من أي تحركات مناهضة من جانب حركة بنى شنقول وعناصر التجراي، كما دفعت أديس أبابا بعناصر نسائية تعمل لصالح المخابرات ضمن موجات اللجوء فى المعسكرات التى يستضيفها السودان على أراضيه، وترسيخ لجان إلكترونية لبث شائعات داخلية تعمل على تمزيق الوحدة رافع شعار "إثيوبيا أخت بلادي" في جميع المنشورات.
شائعة الدعم السريع
زاد منسوب الخطر، وبرزت فكرة الإطاحة بالمكون العسكري في بادئ الأمر، من خلال ماكينة عملت ليلًا نهارًا على بث شائعات حول وجود خلافات بين القوات المسلحة السودانية التي يترأسها البرهان من جهة، وعناصر الدعم السريع التي يتزعمها نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وحرص الطرفان على تكذيب هذه الشائعات وتعمدًا تبادل الزيارات المنزلية والرسمية لتفويت الفرصة، بهدف خلق حائط صد لمحاولة شق الصف داخل الجيش بعد انضمام قوات الدعم السريع رسميًّا للعمل تحت قيادة الجيش السوداني.
بعد ذلك أعلن في السودان إجهاض محاولة انقلاب في سبتمبر الماضي، تورط فيه رموز من نظام البشير مع مدنيين من خارج القوات المسلحة، كما جاء في بيان الجيش حينها، عقب النجاح في إجهاضها داخل سلاح المدرعات.
وقتها اعتبر المراقبون أن السودان سوف يصل لنقطة "الطلاق" بين المكون المدني والعسكري، مهدت له التصريحات من الجانب المدني وخصوصًا لجنة إزالة التمكين التي طالتها شكوك تتعلق بشبهات فساد هي الأخرى.
أيضًا بدأت القوى المدنية ممثلة في الحاضنة الشعبية للثورة على نظام البشير – الحرية والتغيير- وبدأت الدعوات المتتالية لمظاهرات مليونية في الشوارع لحماية مكتسبات الثورة وعدم تمكين العسكريين من الانقلاب على الوثيقة الدستورية وضمان مدنية الدولة.
تراجع التأييد
اتخذت هذه المظاهرات في بداية الأمر زخمًا مقبولًا، لكن مع مرور الوقت وتكرار الدعوات بدأت تفقد دسمها السياسي وتراجعت التجمعات بشكل ملحوظ، الأمر الذي دفعها في نهاية المطاف إلى الدعوة لاعتصام سمي "الميثاق"، ورفضت القوى المدنية فضه لحين تسليم الدولة للحكم المدني، في المقابل خرجت مظاهرات مؤيدة للجانب العسكري تخشى من سقوط الدولة في شباك الفوضى، وتجد في العسكريين ضمانة لاستقرار الدولة.
مع هذه المظاهرات المضادة والمؤيدة استشعر الغرب الراعى لمؤتمر باريس لدعم السودان، والذي يراقب الوضع عن كثب ويخشى انفجار الأوضاع بطريقة يصعب السيطرة عليها بدولة تقع وسط بركان أزمات في القرن الأفريقي بطريقة تؤرق العالم، وانهالت البيان حول ضرورة العمل على إنجاح الفترة الانتقالية وتسليم الدولة لحكومة مدنية منتخبة، وانتهت التحركات الغربية بوصل المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي السفير جيفري فيلتمان، لعقد لقاءات مع الفرقاء هناك للسيطرة على الأوضاع قبل حدوث المكروه.
توقيت القرارات
اللافت في الأزمة، هو خروج رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، بعد ساعات من لقاء فيلتمان، لإعلان بيانه الوارد ذكر بنوده في السطور السابقة، والذي وصفه البعض بحماية وطن في خطر كما ذكر رئيس مجلس السيادة، بينما رآه الجانب الآخر انقلابًا عسكريًّا وصراع كراسي، لكن مع ظهور أصوات تدعو صراحة للتخلص من البرهان والتحريض على شخصه داخل المؤسسة العسكرية ربما يكون سبب اتخاذ القرار النهائي بحسم الأمر، لإيصال رسالة إلى الخارج بعدم التهاون مع هذه المخططات.
قادم الأيام في السودان، ربما يحمل الكثير من المخاطر لكن بحسب مصادر سوف تتلاشى التداعيات تدريجيًّا، مؤكدة أن تهديد نائب رئيس مجلس السيادة الفريق حميدتي، بوجود تسجيلات تدين بعض رموز المكون المدني ووضعهم العصا في العجلة لصالح أجندات خارجية سوف تنشر تباعًا بهدف تحذير الشعب السوداني وخلق حالة وعي لما يحاك ضد وطنه في الخفاء، بطريقة تعمل على امتصاص غضبة الشارع وتبريد الحالة الثورية التي دخل على خطها شباب شرفاء يعتقدون أن الأمر مجرد صراع حكم بين المدنيين والعسكريين.
لكن في نفس الوقت بحسب حديث هذه المصادر، بات الخوف من أياد خفية تعمل داخليًّا لهدف توتير الأوضاع ورفع منسوب الصدام المسلح في الشارع السوداني، وتنفيذ سياسة الأرض المحروقة على الجميع طالما فقدت جهات خارجية مكاسبها وتنتظر الفائز من المعركة الدائرة على الوطن.
الخلاصة، أن الدولة السودانية باتت مهددة داخليًّا خارجيًّا، والاستماع لصوت الحكمة ورفع قيمة الولاء للوطن فوق جميع الاعتبارات بات الرهان الأساسي لخروج وطن مزقته الصراعات من كبوته السياسية والاقتصادية في ظل تربص "كيزان وعملاء" لا يريدون للبلاد خيرًا.
الخطر على مصر
أيضًا على الدولة المصرية مراقبة ما يحدث ذلك جيدًا، فالسودان عمق إستراتيجي للقاهرة، إضافة إلى وجود قضايا مشتركة تعد الخرطوم شريكًا فاعلًا بها متعلقة بأزمة سد النهضة مع الجانب الإثيوبي، وحال غذت دول خارجية نزعة انفصال الشرق على البحر الأحمر، أمر من شأنه تهديد وتأجيج صراع في عمق المياه الزرقاء، كل ذلك مع الأخذ في الاعتبار لوجود تيارات تعادي المحروسة حكومة وشعبًا وتنشر شائعات ليس لها أساس من الصحة تهدف لتحويل مصر من شقيق عربي داعم إلى عدو يتربص السقوط.
هذه العناصر عبارة عن مثلث شر يشمل الإخوان وإثيوبيين يحملون الجنسية الإثيوبية منح لهم جنسية البلاد نظام البشير، وأخيرًا أصحاب أجندات خارجية لديهم قناعة بأن فراق القاهرة والخرطوم يفتح الأبواب لدخول قوى أخرى لا تحمل الخير للسودان الذي أصبح في خطر، والمطلوب من الجميع الآن العمل على تنبيه الجميع للأخطاء سواء تلك التي وقع فيها المدنيون والعسكريون على حد سواء للعبور بالدولة من بحر هائج بأمواج الأزمات السياسية والاقتصادية جعلت المواطن رهينة لسموم خارجية.
