هل يتنافى تنظيم النسل مع التوكل على الله وهل هو معاندة لقدر الله.. الإفتاء ترد
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه"هل يتنافى تنظيم النسل مع التوكل على الله وهل هو معاندة لقدر الله؟"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
منع الحمل مؤقتًا بالعزل أو بأية وسيلة حديثة لا يعدو أن يكون أخذًا بالأسباب مع التوكل على الله شأن المسلم في كل أعماله؛ أرأيت إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين قال لصاحبه: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» رواه الترمذي وغيره، أي اعقل الناقة واتركها متوكلًا على الله في حفظها؛ قال الإمام الغزالي في كتاب "الإحياء" عن العزل: [الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء غير منهي عنه].
ولا يعد هذا معاندة لقدر الله؛ لإن قدر الله غيبٌ غير معروف، ويدل لهذا قول رسول الله صلوات الله عليه في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في شأن العزل: «مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ» رواه البخاري.
استعمال وسائل تنظيم الحمل
كما ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه “ما حكم استعمال وسائل تنظيم الحمل؟”،وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
إن مصدر الأحكام في الإسلام أصلان أساسيان هما: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، يدل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وباستقراء آيات القرآن الكريم نرى أنه لم يرد فيها نص صريح يحرم الإقلال من النسل أو منعه، وإنما جاء فيه ما جعل المحافظة على النسل من المقاصد الضرورية للأحكام الشرعية، ولكن ورد في كتاب السنة الشريفة أحاديث في "الصحيح" وغيره تجيز العزل عن النساء، بمعنى أن يقذف الرجل ماءه خارج مكان التناسل من زوجته، بعد كمال اتصالهما جنسيًّا وقبل تمامه. من هذه الأحاديث ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ» متفق عليه، وروى مسلم: "كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَمْ يَنْهَنَا".
وقد اختلف الفقهاء في إباحة العزل -بذلك المعنى- كوسيلة لمنع الحمل والإقلال من النسل أو كراهيته، وفي هذا يقول الإمام الغزالي في كتاب "إحياء علوم الدين" في آداب النكاح في حكم العزل ما موجزه: إن العلماء اختلفوا في إباحة العزل وكراهيته على أربعة أقوال: فمنهم من أباح العزل بكل حال، ومنهم من حرمه بكل حال، وقائل منهم أحل ذلك برضاء الزوجة، ولا يحل بدون رضائها، وآخر يقول: إن العزل مباح في الإماء (المملوكات) دون الحرائر (الزوجات)، ثم قال الغزالي: إن الصحيح عندنا -يعني مذهب الشافعي- أن ذلك مباح. اهـ.
ويكاد فقهاء المذاهب يتفقون على أن العزل -أي محاولة منع التقاء مني الزوج ببويضة الزوجة- مباح في حالة اتفاق الزوجين على ذلك، ولا يجوز لأحدهما دون موافقة الآخر، والدليل على هذه الإباحة ما جاء في كتب السنة من أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعزلون عن نسائهم وجواريهم في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك بلغه ولم ينه عنه، كما جاء في رواية مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وإذ كان ذلك: كانت إباحة تنظيم النسل أمرًا لا تأباه نصوص السنة الشريفة قياسًا على العزل الذي كان معمولًا به وجائزًا في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في رواية الإمام مسلم في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ" كما جاء في رواية الإمام البخاري في "صحيحه".
والمقصود بتنظيم النسل بهذا المفهوم هو المباعدة بين فترات الحمل، محافظة على صحة الأم وحفاظًا لها من أضرار كثرة الحمل والولادة المتتالية، أو لتفرغها لتربية من لديها من أولاد، بل كما جاء في "إحياء علوم الدين" للغزالي و"نيل الأوطار" للشوكاني: [أن من الأمور التي تحمل على العزل الإشفاق على الولد الرضيع خشية الحمل مدة الرضاع، أو الفرار من كثرة العيال والفرار من حصولهم من الأصل] اهـ بتصرف.
أما إذا قصد من منع الحمل وقف الصلاحية للإنجاب نهائيًّا، فإن ذلك يتنافى مع دعوة الإسلام ومقاصده في المحافظة على إنسال الإنسان إلى ما شاء الله.
وقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء: 31] لا يتنافى مع ما قال به جمهور فقهاء المسلمين من إباحة العزل عن الزوجة قصدًا لتأخير الحمل، أو وقفه مؤقتًا لعذر من الأعذار المقبولة شرعًا؛ ذلك أن هذه الآية جاءت في النهي عن قتل الأولاد، ومنع حدوث الحمل بمنع التلقيح الذي هو النواة الأولى في تكوين الجنين لا يعد قتلًا؛ لأن الجنين لم يتكون بعد إذا ما تم العزل، ولم يلتقِ مني الزوج ببويضة الزوجة إذ لم يتخلقا ولم يمرا بمراحل التخلق التي جاءت -والله أعلم- في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: 12-13]، وبيَّنها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه".
ومن ثَمَّ فكل ما لا يؤدي إلى قتل الجنين بعد تكوينه -في أي مرحلة عمرية وإن قَلَّت- يجوز استخدامه على ما سبق بيانه.