رسائل شيخ الأزهر في احتفالية المولد النبوي.. استحضار الصفات النبوية وتشخيص لواقع الأئمة
قال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، إن احتفالنا بمولد خاتم الأنبياء والمرسلين ليس احتفالا بعظيم من العظماء، ممن يتوقف التاريخ عند أدوارهم قليلا أو كثيرا، ثم ما يلبث أن يروح ويتركهم، بل هو احتفال من نوع آخر مختلف، إنه احتفال بالنبوة والوحي الإلهي وسفارة السماء إلى الأرض، والكمال الإنساني في أرفع درجاته وأعلى منازله، والعظمة في أرقى مظاهرها وتجلياتها، احتفال بالتشبه بأخلاق الله تعالى قدر ما تطيقه الطبيعة البشرية، وقد تمثل كل ذلك في طبائع الأنبياء والمرسلين، الذين عصمهم الله من الانحراف، وحرس سلوكهم من ضلالات النفس وغوايات الشياطين، وفطر ظاهرهم وباطنهم على الحق والخير والرحمة.
وأكد شيخ الأزهر خلال كلمته بالاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، إن رسولنا محمد قد بلغ في هذه المعارج المتعالية شأوا بعيدا، حتى أطلق عليه: «الإنسان الكامل» من فرط ما استوعبه استعداده الشريف من سمو في الفضائل، وسموق في الخلق والأدب الرفيع، ويؤكد ذلك ما زخرت به مصنفات الأخلاق والشمائل المحمدية من أوصاف لا يمكن أن تجتمع لإنسان إلا إذا كان من هؤلاء الذين هيأهم الله لهذه الأوصاف، وأعدهم للتحلي بحلاها.
شيخ الأزهر
وأشار فضيلة الإمام الأكبر أن من بين هذه الأوصاف الشريفة التي يسردها عنه بعض أصحابه أنه -صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن غليظ الطبع، ولا فاحشا في قوله وعمله، ولا متفحشا، ولا صخابا يرفع صوته في الطرقات والأسواق، ولم يكن يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح.. ما ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادما ولا امرأة، وما رؤي منتقما من مظلمة ظلمها قط، ما لم تنتهك محارم الله تعالى، فإذا انتهكت كان من أشد الناس غضبا، وكان يبشر المظلومين الذين لا يستطيعون دفع الظلم عن أنفسهم، ويؤكد لهم: «ما ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا».
وبين شيخ الأزهر أن النبي الكريم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، وإذا دخل بيته كان بشرا من البشر، وكان يعظم النعمة وإن قلت لا يذم منها شيئا، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، وكان يمسك لسانه إلا فيما يعنيه، وكان يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، يحذر الناس، ويحترس منهم، ويلقاهم من غير أن يطوي على أحد منهم طلاقة وجهه وبشاشته، وكان يتفقد أصحابه، ويسأل الناس، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من قول بمعروف، مجلسه مجلس علم وحياء وصبر وأمانة، يوقر فيه الكبير، ويرحم الصغير، ويقدم ذو الحاجة، ويحفظ حق الغريب، وقد كساه الله لباس الجمال، وألقى عليه محبة ومهابة منه.
وأكد شيخ الأزهر أن النبي صلى الله عليه كان لا يذم أحدا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وكان يصبر للغريب على جفائه في كلامه ومسألته، وكان يمازح أصحابه: يضحك مما يضحكون، ويتعجب مما يتعجبون، يعود مرضاهم في أقصى المدينة، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره، ومع شدة حبه للصلاة وولعه بها - يسرع فيها إذا سمع بكاء صبي، وكان يقول: «إني لأقوم في الصلاة وأريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه».
قال فضيلة الإمام الأكبر إن هناك الكثير والكثير مِمَّا قاله عيون المفكرين والعلماء والفلاسفة، والأدباء ومؤرخي الحضارات في الشرق والغرب من غير المسلمين عن نبي الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم، من أمثال «غاندي» و«راماكريشنا» و«لامارتين» و«مونتجمري وات» و«زويمر» و«تولستوي» و«مونتيه» وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم، وسرد ما قالوه عنه وعن أخلاقه، وعن شريعته وآمالهم في أن تعود لتُصحح مسيرة العالم اليوم، وتُنقذ مصيره من هلاك مرتقب ودمار مُتوقَّع.
احتفالية ذكرى المولد الشريف
وأوضح فضيلته خلال كلمته بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، أن من بين ما كتبه هؤلاء، ما قاله «برناردشو» الكاتب والناقد الإنجليزي الذائع الصِّيت الذي تَعرفه الدنيا بأسرِها، يقول هذا المفكر العملاق عن رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أوروبا الآن بدأت تحسُّ بحكمة محمد، وبدأت تَعشَقُ دِينه، وإنَّ أوروبا سوف تُبرِّئ الإسلام ممَّا اتَّهمته به من أراجيف رجالها ومُفكِّريها في العصور الوسطى، وسيكون دين محمد هو النظام الذي تُؤسِّس عليه دعائم السلام والسعادة، وتستندُ على فلسفته في حل المعضلات وفك المشكلات، وحَلِّ العُقَد، وإنِّي لأعتقد أنَّ رجلًا كمحمد لو تسلَّم زمام الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم لتم له النجاح في حكمة ولقاد العالم إلى الخير، وحلَّ مشاكله على وجه يحقق للعالم السلام والسعادة المنشودة، ثم يقول: أجل.. ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد لِيَحُلَّ قضاياه المعقدة بينما هو يتناول فنجانًا من القهوة»..
أكد شيخ الأزهر أن عودة الهدي المحمدي أصبح ضرورة لإنقاذ عالمنا اليوم، وهو ضرورة ملزمة وواجبة لإنقاذ مجتمعات المسلمين من الأوضاع اللاإنسانية التي تردى فيها البعض ممن يزعمون انصياعهم لتعاليم هذا النبي الكريم، واتباعهم لدينه وشريعته، بينما هم يقتلون الأبرياء، ويحولون بيوت الله التي أذن أن ترفع للذكر والتسبيح إلى ساحات حرب تزهق فيها الأرواح، وتراق الدماء، وتنتثر الأشلاء، وتستباح الحرمات وتهدر حقوق الناس، وحقوق النساء والفتيات والأطفال.
وشدد فضيلة الإمام الأكبر، أن هذا الوضع البائس الذي يعيشه المسلمون اليوم ليوحي للمهموم به بأمور ثلاثة: الأول: أن طوائف المسلمين وهم يقتل بعضهم بعضا يوظفون شريعة السلام في تبرير هذه الحرب، حتى أصبح بأسنا بيننا شديدا، والأمر الثاني: ما يصدره هذا العبث بالأرواح والدماء من صور بالغة الوحشية تغذي النزعات اليمينية المتطرفة في الغرب والشرق، (وما يسمى هناك بالإسلاموفوبيا) حتى أصبح الدفاع عن صورة الإسلام يبدو وكأنه أمر يصعب قبوله، فضلا عن تصديقه، مؤكدا أنه يعرف ذلك كل من قدر له أن يدافع عن هذا الدين الذي ظلمه بعض أهله، وينافح عن سيرة نبيه الذي تنكر له بعض أتباعه، مع علمه أن هؤلاء وأمثالهم إنما يوظفون هذا الدين لأهوائهم ومآربهم وهو منهم براء، وإن هتفوا باسمه وتزيوا بزيه.
وأوضح شيخ الأزهر أن الأمر الثالث الذي يوحي به هذا الوضع البائس للمهموم بشئون الأمة الإسلامية، أن الخروج من هذه الأوضاع المعضلة لا يتحقق - فيما أعتقد - إلا بإحياء صحيح هذا الدين الحنيف، واتخاذه نبراسا في سلوكنا وتصرفاتنا، جنبا إلى جنب التأسي بصاحب هذه الذكرى - صلوات الله عليه – ترسيخ هديه في مناهج تعليمنا، والاعتزاز برسالته وسنته.
وفي نهاية كلمته أهدى شيخ الأزهر نسخة من مصحف الأزهر الشريف إلى السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، تكريما لسيادته على مجهوداته في بناء واستقرار مصرنا الحبيبة.