إقرار بالغروب.. القرن اللا أمريكي
دشن الرئيس الأمريكي جو بايدن، حقبة الغروب الأمريكي، رسميا تقريبا، أمام ممثلي الدول في الاجتماع السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة، ينعقد في سبتمبر من كل عام. فيما يشبه النعى جاءت كلمة بايدن في ظهوره الأول أمام المحفل الدولى، وفي ظهوره العالمى الأول بعد كارثة الانسحاب المخزى لقواته، جرجر وراءها قوات حلفائه، من أفغانستان.
مع التبصر، في مضمون الخطاب، سنجد الشئ ونقيضه. ستجد الرغبة الشاملة في السلام، واشتراط التدخل في الضرورات. سنرى الرغبة في حل مشاكل الكوكب.. من مناخ وأوبئة إلى الصين وإيران وكوريا وإثيوبيا والتيجراى. سنرى إعلانا بأن الجيش الأمريكي ليس للتورط في أي مكان في العالم، "لكننا لن نتخلي عن حلفائنا". ربما بعثت الجملة الأخيرة بإبتسامة ساخرة على وجه الرئيس الفرنسي ماكرون، أمس، إذ تحسس موضع الطعنة الأمريكية بظهره، في صفقة الغواصات التى إستولت عليها أمريكا، وجعلت فرنسا في غضب عارم.
كلمة رؤساء أمريكا عادة تمثل الخطوط العريضة لمجمل السياسة الخارجية لواشنطن في علاقاتها مع الحلفاء ومع الغرماء والأعداء. تقليديا كان الإتحاد السوفيتي الذي قتلته أمريكا في الحرب الباردة وفككته بعهد جورباتشوف.. العدو الأول. حاليا تحتل الصين الموضع ذاته بجدارة. صحيح أن روسيا دولة نووية عظمى وفاعلة وخصم لدود، الإ أنها لا تتمتع بالقوة الاقتصادية الصينية المتصاعدة بشكل ملحوظ فضلا عن طفرة تكنولوجية طورت القدرات العسكرية على نحو تتحسب له أمريكا. تعرف واشنطن أن العقد الحالي يبشر بهيمنة صينية، ومن ثم فإن بايدن تعهد بأن بلاده ستقوي اقتصاديا، ولم يشر إلى الصين بصراحة. قال: "لا نسعى إلى حرب باردة جديدة أو عالم منقسم إلى تكتلات جامدة".
عصر الدبلوماسية النشطة
ومع إعلانه أن أمريكا ستبدأ عصرا من الدبلوماسية النشطة بديلا للحروب والتدخلات.. فإن ثمة شكوكا قوية تحيط بمصداقيته، مع إختلاف وجهات النظر ليس فقط بين واشنطن وباريس، بل بينها وبين كل الإتحاد الأوروبي الذي يرى في الصين خصما يمكن التعامل معه لا محاربته، والتفاوض معه لا مناطحته لحساب واشنطن. يرفض الإتحاد الأوربي الإنجرار إلى حرب تجارية بين أمريكا والصين، تفضيلا لمصالحه أولا. قال: "أنهينا 20عاما من الصراع في أفغانستان، وبينما ننهي حقبة من حرب لا هوادة فيها، فأننا نبدأ حقبة جديدة من الدبلوماسية التى لا تلين"..
البلاغة في التعبير السياسي لا تغني عن مواجهة الحقيقة، فقد أعلن: "الدبلوماسية نعم لكن.. يجب أن تكون المهمة واضحة وقابلة للتحقيق، والجيش الأمريكي يجب الآ يستخدم كرد على كل مشكلة نراها في جميع أنحاء العالم"!
يتساءل المحللون كيف سيحل الصراع مع كوريا الشمالية، ومع الصين المنزعجة للغاية من الحضور العسكرى الثقيل في بحر الصين الجنوبي، والغاضبة من سباق تسلح نووي أسترالي أمريكي بريطاني في المحيط الباسيفيكي.. ويتساءل المحللون كيف سيوقف بايدن التدخلات في اختيارات الدول ذات الثقافة المغايرة لثقافة واشنطن.. وهو يعلي من عقوبة حقوق الانسان.. ويتخذها ذريعة للهيمنة والتآمر.. وكيف سيحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. لقد طرح التمسك بحل الدولتين، لكنه كأسلافه أكد أن الطريق طويل.. لبلوغ الحل. وسيكررها رئيس من بعده من فوق المنبر ذاته!
خلاصة القول أن كلمة بايدن تخبطت بين الحرب وتكلفتها والسلام وضرورة اللجوء إلى ظلاله.. ولا يتناقض ذلك مع التباهي بمجد قوة عظمى غاربة، ملطخة بالدماء.. سفكت منها بحورا كما لم تسفك دولة معاصرة.
