قصة سقوط قاضي (3)
تتعدد التزامات أعضاء الجهات والهيئات القضائية، فلا تقف عند الامتناع عن ارتكاب الجرائم والموبقات، بل تمتد إلى الأخلاقيات التي تكفل احترام المجتمع للقضاة، والتسليم بما يقضون به، وهي التزامات لا يمكن تحديدها على سبيل الحصر، بل يحدد الإطار العام لهذه الالتزامات مجلس التأديب أو مجلس الصلاحية المختص.
ولا ترتبط دعوى الصلاحية بواقعة معينة بل يقوم عمل مجلس التأديب المنعقد بهيئة صلاحية في جوهره على تقييم لحالة القاضي في مجموعها من حيث صلاحيته للاستمرار في وظيفته القضائية، وبالتالي فإن دعوى الصلاحية هي دعوى أهلية يراعى عند الفصل فيها الاعتداد بالعناصر المختلفة التي تتصل بهذا التقييم حتى ما كان منها متعلقًا بحقبة ماضية، ذلك أن الأمر المُعتبر في تقدير حالة القاضي هو النهج الذي احتذاه طريقًا ثابتًا في مظاهر سلوكه المختلفة، ومن ثم لا يتقيد تقدير مجلس الصلاحية للقيم التي التزمها بفترة معينة دون أخرى، وإنما يُقَلِبُ البصرَ في الصورة المتكاملة لسمعته وسيرته وما أستقر في شأنها بطريق التواتر ماضيًا وحاضرًا.
وعمل القاضي لا يقاس بغيره من العاملين المدنيين ولا هو يؤاخذ بالضوابط المعمول بها في شأن واجباتهم الوظيفية، وإنما يتعين أن تكون مقاييس سلوكه أكثر صرامة واشد حزمًا، نأيًا بالعمل بالجهة القضائية عن أن تحيطه الشبهات أو تكتنفه الشكوك والريب التي تلقي بذاتها ظلالًا قاتمة على حيدته ونزاهته وتتضاءل معها أو تنعدم الثقة في القائمين عليه، مما يستوجب الحكم بانتفاء صلاحية القاضي للقيام برسالته وابعاده عن محيط العمل بالجهة القضائية إن هو تنكب سبيله القويم وفقد شروط توليه أعباء الوظيفة وتحمله تبعاتها، وانزلق إلى أفعال كان ينبغي عليه أن يتجنبها صونًا لهيبة الجهة القضائية التي ينتمي إليها وتوكيدا لسمو شأنها وتوقيا للتعريض بها.
هيئة صلاحية
وعلى مجلس التأديب المنعقد بهيئة صلاحية أن يقف على حقيقة الأمر في شأن صلاحية القاضي للعمل القضائي، وهو ما يفيد لزومًا تقصيه لكل واقعة جرى إسنادها إليه كي ينزلها المنزلة التي تستحقها ويُكَون عقيدته في ضوء ما ينتهي إليه بشأنها ويتخذ قراره سواء برفض الدعوى أو بإبعاده عن محيط العمل القضائي.
وقالت المحكمة الإدارية العليا أن ما طويت عليه من تحقيقات سُمعت فيها أقوال الطاعن المستشار (ن ع أ) نائب رئيس مجلس الدولة، وأخذًا بعين الاعتبار أن أمر الصلاحية أو عدم الصلاحية ليس رهينًا بثبوت واقعة مُحددة أو عدم ثبوتها، وإنما يكفي فيه النظر إلى الصورة المتكاملة لسمعة العضو المُحال وسيرته وما استقر في شأنها من جراء ما أتاه من أفعال.
وأطمأنت المحكمة إلى ما انتهى إليه تقريري خبراء جامعة طنطا واتحاد الإذاعة والتليفزيون، خاصة وأنهما جاءا متفقين فيما انتهيا إليه، وتطرح المحكمة جانبًا ما قدمه الطاعن من تقارير فنية ادعى صدورها من أساتذة متخصصين بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان والمعهد العالي للفنون التطبيقية بالتجمع الخامس لأن مثل هذه التقارير لا تعدو أن تكون مجرد أدلة اصطنعها الطاعن للإفلات من العقاب، ولا تستقيم دليلًا مقبولًا على صحة ما يزعمه إذ تفتقد إلى الحيدة والمصداقية.
أفعال مهينة
كما التفتت المحكمة عما زعمه الطاعن من اتهامات وطعون على أشخاص الخبراء وما جاء بتقاريرهم، بحسبانها اتهامات باطلة يقذف بها الطاعن المستشار (ن ع أ) نائب رئيس مجلس الدولة عساها تنجيه من المساءلة عن زلاته وما اقترفه من أفعال مهينة انزلق بها إلى مواطن الريب، ويؤكد ذلك أنه بجلسة الصلاحية، وبمجرد تلاوة الهيئة تقرير خبراء اتحاد الإذاعة والتليفزيون تقدم الطاعن بمذكرة دفاع مُعدة مُسبقًا ضمنها كافة الاتهامات الموجهة لأشخاص الخبراء.
وقد ثبت من تقرير الخبراء أن الصور الخمس وعشرين للطاعن مع بعض السيدات في أوضاع مُخلة صور حقيقية لا يشوبها تزييف أو تلاعب، وتلك الصور تبين ظهوره فيها محتضنًا بعض السيدات وممسكًا بأجزاء من أجسامهن، فضلًا عن أوضاع أخرى مريبة تنبئ عن ضعف بالنفس وانحطاط في الخلق، وخروج على السلوك القويم، وانزلاق إلى الشهوات، خاصة وأن تلك الصور التقطت له بعلمه حيث كان يحاول هو ومن معه من السيدات إظهار ردود أفعال خاصة بوضعيات التصوير، وسواء كانت الصور سُرقت منه أو نُشرت بأي طريق آخر، فإن ذلك لا ينفي التقاطها له عن مقصد منه، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي ليراها الخاصة والعامة، ويغدو إنكاره التقاط هذه الصور له محاولة فاشلة للخروج من مأزق وضع نفسه فيه.
ويدعم ويؤكد ما سبق، أن خبراء ماسبيرو طلبوا من المستشار (ن ع أ) نائب رئيس مجلس الدولة التقاط صور فوتوغرافية لبعض أجزاء من جسمه لمضاهاتها بالصور محل الفحص، فرفض ذلك وأصر على موقفه، ولم يسمح لها بذلك إلا بعد أن بينت اللجنة أنها لن تتمكن من القيام بعملها إلا إذا قامت بتصويره، وموقف الطاعن يُعد قرينة على خشيته من الحقيقة بأنه هو نفس الشخص الموجود في الصور، وهو ما تبين للجنة حيث ثبت لديها وجود تطابق في أجزاء جسم الطاعن (مثل الإبهام والكف والذراع والأذن والشفاه) في الصور التي تم التقاطها للطاعن والصور محل الفحص.. وللحديث بقية.