بحثا عن معاش النحاس..الهانم في مواجهة الزعيم.. تفاصيل مكالمة زينب الوكيل لعبد الناصر
لماذا زينب الوكيل وليس النحاس باشا؟.. سؤال ظل لسنوات معلقًا بعدما اتخذت الثورة موقفًا حادًا منها، وصل إلى درجة تقديمها للمحاكمة وتجريدها من أموالها ومصادرة ممتلكاتها، ما دفعها في البداية إلى بيع مجوهراتها، ومن ثم اللجوء إلى أعضاء حزب الوفد للبحث عن «ثمن دواء الباشا»، فالبيت الكبير الذي كان مليئا بالخدم والمساعدين أصبح خاويًا على عروشه، بعدما فشلت فى تدبير نفقات «رواتب الموظفين».
وعندما ضاقت عليها الأمور، وأغلقت الثورة – في خطوة ثانية لمحاصرتها وزوجها– باب التبرعات التي كان يضعها بعض الوفديين في حسابها البنكي، بمصادرة أملاك وأموال غالبيتهم، لم تجد «زينب» التي ظلت تعرف لسنوات طويلة بلقب «سيدة مصر الأولى» إلا أن تطرق باب الرجل الذي حاصرها، أن تطلب «عبد الناصر» هاتفيًا، وتطالبه بجزء من أموالها التي صادرتها حكومته، لتخرج بعد محاولات عدة بـ 300 جنيه أقرها «رأس النظام» لزوجها الذي كان يومًا «أبو النظام».
عن تفاصيل ما جرى، والدور الذي لعبه رئيس وزراء مصر السابق نجيب الهلالي، الذي اختاره «ناصر» مستشارًا له بعد ثورة 23 يوليو 1952، يروي «النحاس» في مذكراته التي قدمها سكرتيره الخاص، محمد كامل البنا، تحت عنوان «مذكرات مصطفى النحاس.. ربع قرن من السياسة في مصر» تفاصيل ما حدث، ويقول:
استمعت الثورة، أو على وجه التحديد، استمع عبد الناصر إلى نصيحة مستشاره الجديد نجيب الهلالي وقدم زينب الوكيل إلى المحاكمة بتهمة الإثراء الفاحش عن طريق استغلال النفوذ، وطلب الحكم عليها بمصادرة أموالها وتجريدها من كل عقار أو مال تجمع لديها.
وقدمت زينب الوكيل للمحاكمة وطلبوا إليها أن تحضر إلى المحكمة فرفضت وتقدم المحامي أحمد رشدي، وهو من أكفأ رجال القانون في مصر، للدفاع عنها وفند التهم المنسوبة تهمة تهمة، واتخذت المحاكمة عدة أيام اكتفت فيها بمصادرة أملاكها وعدم تمكينها من أي شيء، واكتفت بهذا وجردتها من كل ما تملك وحددوا إقامتها كذلك في المنزل، وجاءني عثمان محرم وأحمد حمزة وفؤاد سراج الدين، وبدأ فؤاد الحديث قائلا «أنت تعلم أن عبد الناصر قد استولى على جميع ما تملك السيدة حرمك، وأن المعاش لا يكفيك ولا يفي بمطالبك الضرورية، ونحن والحمد لله لا يزال لدينا زائد عن حاجتنا، ولطالما غمرت المحتاجين منا ومن أعضاء الهيئة الوفدية وأنصار الوفد بعطفك وفضلك كعهدنا بك، كما عودتنا أن تنزل عند رأي الجماعة وقد قررنا أن نساهم معك في بعض النفقات ونرجو ألا ترفض طلبنا».
ويضيف «النحاس»: غضبت.. ورفضت أن أقبل منهم أي مال على أي صورة، ولكن عثمان محرم وأحمد حمزة قالا لي إننا سندفع ما ندفع كسلفة نقرضها لك كما بنك مصر الذي سبق لك أن اقترضت منه مبلغًا وأودعه طلعت حرب في حسابك حين خفض صدقي معاشك، ومادام التاريخ يعيد نفسه ومادمنا لا نستطيع أن نحمل القائمين على بنك مصر الآن على أن يقرضوك، فقد قررنا أن نحل محلهم ونرجو ونلح أن تنزل كما عودتنا على رأي الأغلبية وليس يضيرك أو يمس من كرامتك.
الحاجة الماسة للمال التي أصبح عليها «الباشا» دفعته للصمت، فما كان من أعضاء الهيئة الوفدية إلا أن استأذنوا جميعا وجمعوا مبلغًا وصل إلى ثلاثة آلاف جنيه، وأودعوه في حساب «النحاس» ببنك مصر، وقالوا لزوجته«اسحبي منه ما يكفي لمصاريف المنزل حتى إذا ما أوشك على النفاد دفعنا غيره»، وظلوا على هذه الحال إلى أن فرض عبد الناصر عليهم جميعًا الحراسة وأخذ أموالهم، ولم يترك لأي واحد منهم ما يستطيع أن يعيش به الكفاف، حتى إن فؤاد سراج الدين اضطر إلى قبول عرض عرضه عليه أحد تجار المجوهرات المسمى (لياكيم) ليثمن له ما يعرض عليه من الأحجار الثمينة لقاء عمولة يدفعها له ليغطي بها مصاريفه، وظل في حياته على مظهره الخارجي أمام الناس لم يغير منه شيئا.
ويقول «النحاس» عن هذه الفترة: تلفتت السيدة حرمي حولها فرأت أنها لا تستطيع أن تواجه مطالب الحياة وهي المسئولة عن تدبير وسائل الراحة والهدوء لرجل جاوز الثمانين من عمره وقدم لوطنه ولأمته العربية ما لم يقدمه أحد، فهداها تفكيرها إلى أن تتصل بعبد الناصر وتطلب إليها أن يدفع إليها مبلغا من إيراد أملاكها التي صودرت يمكنها من مواجهة مطالب الحياة والمحافظة عليّ في شيخوختي، فطلبت عبد الناصر في التليفون فرد عليها سامي شرف أحد الأدوات التي كانت مسخرة للتنكيل بالمواطنين لحساب الثورة وكان من أقرب المقربين إلى عبد الناصر، وسألها سامي شرف ماذا تريد من الرئيس فقالت له أريده في أمر شخصي خاص فتركها على التليفون وغاب مدة طويلة ولم يرد عليها، فطلبت محمد أحمد وهو أحد سكرتارية عبد الناصر، فاستحى أن يعمل ما عمل زميله واستمهلها حتى يوصل التليفون، وبعد قليل رد عليها عبد الناصر فجرى بينهما الحديث التالي:
هي:
أنا زينب الوكيل حرم الرئيس السابق مصطفى النحاس.
هو:
أهلا وسهلا، قالها بنبرات بطيئة ثم أعقبها: فيه حاجة؟
هي: تعلم أن كل ما أملك قد صودر وأصبحت لا أجد ما أستطيع أن أواجه به مطالب الحياة، وأنا مسئولة عن زوجي الذي مهما كان رأيكم فيه فلا ينكر أحد أنه ظل يخدم الوطن أكثر من ثلاثين عامًا وقدم له ولغيره من الأوطان العربية ما قدم، فهل ترضى أن يهان في أخريات أيامه وألا يجد ثمن الدواء الذي يعالج به؟
هو:
لا.. لست أرضى بهذا ولا أقبله فماذا تطلبين؟
هي:
أطلب أن تأمر بصرف مبلغ لي من إيراد أموالي التي تحت يد الحكومة لأنفقه على مطالب الحياة حتى لا أمد يدي إلى أحد من الناس.
هو:
سأفعل وسآمر المختصين بأن يصرفوا لك مبلغًا يكفي لنفقات مصطفى النحاس الذي لا ننكر أنه تولى زعامة مصر أكثر من خمسة وعشرين عامًا فلم يستغل ولم يسرق ولم يختلس.
هي:
شكرًا لك.
وينهي «النحاس» سرد «مأساة الضائقة المالية» التي ضربت بيته بقوله: «انتهت المحادثة على هذا النحو وبعد يومين اتصل بها محمد أحمد مدير مكتب عبد الناصر، وقال لها إن سيادة الرئيس أمر بأن يصرف لكم مبلغ ثلثمائة جنيه شهريًا للإنفاق منها على مطالب الرئيس السابق مصطفى النحاس، وشكرته على هذا الحديث،
ولما علمت بهذا الصنيع وكان يجلس معي بعض زواري قال أحدهم في معرض الكلام عن عبد الناصر، إنه ما فعل شيئا فهذه بضاعتنا ردت إلينا، وقال ثان (من ذقنه وافتله) ولكني علقت على هذا بقولي: إنه وإن كان المبلغ الذي قرره ليس من خزينة الدولة بل من مالنا فهو على أية حال يشكر إذ كان يمكنه أن يقول لحرمي للأسف لا أستطيع أن أفعل شيئا، أما وقد استجاب لطلبها وأمر بان يدفع مبلغا قليلا فهو يحمد على صنيعه ، لأننا قوم لا يضيع عندنا المعروف ولا ننسى الجميل».