رئيس التحرير
عصام كامل

توقف "شانكار"عن العزف


وأخيراً توقفت أنامل “رافي شانكار” عن العزف على السيتار . أيقنت أنه ترك “في الدنيا دوياً كأنما . . تداول سمع المرء أَنْمُلُهُ العشرُ” . في الثانية والتسعين أفاق على العالم الآخر خفيف الظل . توارى عن الأنظار يوم الثلاثاء (11-12)، فمن أين لحديقة الموسيقا الهندية أن تأتي بشجرة سيكويا عملاقة أخرى؟

شجرة السيكويا هي عملاقة أشجار العالم، ولم يعد لها وجود إلا في كاليفورنيا، لذلك اختار “رافي” الوداع هناك . هي الوحيدة التي تظل شامخة ثلاثة آلاف عام بقامة تتجاوز الثمانين متراً . فكيف تخلّى عن أوتار السيتار وهو في الثانية والتسعين؟
غاندي زعيم سياسة اللاعنف، وشانكار رائد سياسة العزف . آلة السيتار كانت قضيته قبل منتصف القرن الماضي . كانت آلة هندية تقليدية، قرّر أن تكون عالميّة، في كل مسمع مشرقاً ومغرباً . إيّاكِ أعني أيتها الأوساط الموسيقية العربية .
وصل إلى باريس مع أسرته وهو في العاشرة، فوقع في عشق الموسيقا الكلاسيكية . وفي الثلاثين اقتحم أبواب عالم مختلف، سرعان ما سحر بآلته التقليدية وعبقرية عزفه، أعلاماً من البوب والروك، وانجذب إليه الخنافس وشاركوه عروضه . فصاروا تلاميذ في مدرسته . زرع في نفوسهم حبّ الموسيقا الهندية الأصيلة، الراجا بخاصة . والراجا تعني الحالّ، والمتصوفون الإسلاميون يُسموْنَ أهل الحالّ . لكن علاقاته بالموسيقا الكلاسيكية جعلت فرقة لندن السمفونية تعزف معه، بمصاحبة نخبة من أساطين العازفين العالميين .
في الفن الرفيع لا تعارض ولا تناقض بين الأصالة والحداثة، ولا بين رسوخ الهويّة وقبول الرياح اللواقح . أوَلم يقل الأدباء إنك كلما غصت في أعماق أعماقك، لامست شغاف قلوب الإنسانية جمعاء؟ ما يسمّى الأدب الإقليمي إنما هو هذا . وبهذه الطاقة الأصيلة المتجددة استطاع أن يفرض وجود السيتار في أكبر وأشهر قاعات العروض في القارات الخمس . بعض عروضه حضره نصف مليون عاشق للموسيقا .
ما على موسيقيينا وضعه في الحسبان، هو أن “رافي شانكار” لم ينظر إلى المقامات الهندية بوصفها غريبة عن المقامات الغربية، ولم يقل: إن عروض الراجا بعيدة كل البعد من الأشكال الموسيقية الغربية، الكلاسيكية والحديثة، فكيف أعزفه لأهل الغرب؟ بداية الراجا تبدو كصوت سحيق القرار بطيء كأنه بلا إيقاع تماماً، صادر من أعماق بئر، ثم تزداد الإيقاعات سرعة تدريجاً، ومع ذلك اجتاح الموسيقار العالم، لأنه أصرّ على أن يكون فنه الأصيل فناً عالميّاً . قضيّة هويّة وأصالة لها جناحان من الإبداع . فكيف لا تنتصر؟ لم يعرف التبعية والاستلاب، فدارت حوله كواكب الغرب . قيل له: ماذا تفعل عندما تعلو المسرح؟ قال: أبحث عن عينين عاشقتين، وأعزف لهما طوال السهرة . غاب، لكن ابنته أنوشكا، عازفة السيتار وشريكته في العروض، ستواصل المسيرة .
نقلاً عن الخليخ الإماراتية
الجريدة الرسمية