الطائر الكسيح!
بينما كان يفكر كثيرًا فى الطريق الأمثل الذى يستطيع أن يحقق من خلاله آماله وأحلامه وطموحاته وقعت عيناه على قصيدة الإمام الشافعى عن السفر والترحال، التى يقول فيها:
ما فى المقامِ لذى عقلٍ وذى أدبِ.. مِنْ رَاحَة فَدعِ الأوطان واغْتَرِبِ
سافر تجد عوضًا عمَّن تفارقهُ.. وَانْصبْ فإن لَذِيذَ الْعَيْشِ فِى النَّصَبِ
إنى رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ.. إن سَاحَ طَابَ وإن لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسد لولا فراقُ الأرض ما افترست.. والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب
والشمس لو وقفت فى الفلكِ دائمة.. لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَب
وَالبَدْرُ لَوْلَا أُفُولٌ مِنْهُ مَا نَظَرَتْ.. إليه فِى كُلِّ حِينٍ عَيْنُ مُرْتَقِبِ
وهنا قرر أن يترك بلده ويهاجر طلبًا للرزق.. فأرض الله واسعة كما يقولون، جمع الفتى حاجياته القليلة وتجهز للرحلة، ثم ذهب لوداع أحد أساتذته الذى يكنّ له كثيرًا من الحبّ والتقدير، ودّعه الأستاذ بعدما ذكّره بألا ينسى طموحه الكبير، وأهدافه الغالية، وشدد عليه أن يكد ويتعب، لكى يصل إلى منتهى أحلامه وغاية أمانيه. كان الوداع قصيرًا.. قبل أن يمضى الفتى فى طريق رحلته، وحلمه يسبقه بخطوات.. الجو شديد الحرارة والصحراء باتساعها تنبؤه بأن المشوار لا يزال طويلًا.
وبعد أن قطع مسافة لا بأس بها توقف الفتى، وقد لفت نظره أمر عجيب: عصفور كسيح لا يقدر على الطيران، وسط هذه الصحراء الشاسعة، فكان السؤال المحير: كيف يستطيع هذا العصفور أن يعيش فى هذه الأجواء القاسية؟ فلا ماء ولا طعام يقويانه، وجناحه مكسور، فلا يقدر على أن يحمله على الطيران ليأتى بما يعطيه سبل الحياة.
جلس صاحبنا وقد أصبح أمر العصفور شغله الشاغل، وإجابة لغز بقائه على قيد الحياة مع انعدام الوسيلة هو ما يؤرقه، وجاءته الإجابة بعد مدة من الانتظار، عصفور سليم أخذ يطير فوق زميله الكسيح، ثم هبط بجواره وراح يلقمه الطعام الذى أحضره له فى فمه!
موت الهمة
كان الأمر عجيبًا على الفتى الذى أخذ يتأمل هذا المشهد بدهشة عارمة قبل أن يهبّ فجأة وهو يحدث نفسه قائلًا: ويحك.. انظر كيف أن فضل الله ورحمته لم تنسَ عصفورًا مُلقى فى تلك الصحراء الشاسعة، فبعث له من يطعمه ويسقيه ويؤنس وحدته، أليست رحمة الله أولى بعباده من البشر؟!
إن فضل الله لعظيم، وربى القادر على أن يعطى الطائر الكسيح رزقه وهو شبه ميت، لقادر على أن يبعث لى زرقى وأنا حى فى كامل عافيتى، فعلام السفر وإرهاق الروح والجسد، فلأَعُد إلى بيتى، وليقضى الله أمرًا كان مفعولًا.
هكذا قال الفتى لنفسه، وعاد أدراجه إلى بلدته ثانية، ولم يمر يومان إلا وتقابل مع أستاذه الذى وقف مندهشًا، سائلًا إياه عن حاله، وسبب إحجامه عن السفر بعدما ودعا بعضهما، فحكى له الفتى كيف أن رؤيته قد تغيرت، وأن مشهد العصفور الكسيح الذى يرسل الله له رزقه دون أدنى مجهود منه قد غير تفكيره، وجعله أكثر إدراكا لمعنى الحياة، ولمفهوم الرزق.
وهنا لامه أستاذه، ونعى فيه قلة الهمة وانعدام الطموح، قائلًا له: «ولماذا يا بنى ارتضيت أن تكون الطائر الكسيح، ولم تسعَ أن تكون الطائر الصحيح؟ لماذا صنفت نفسك ممن يلقى معونة الأصحاء، على الرغم من قدرتك؟.. ولماذا تعيش وقد تبرمجت على الأخذ والرضا بالقليل، وأبيت أن تكون من العطَّائين الذين ينيرون الدنيا بفضلهم طالما أنك تستطيع فعل ذلك؟!
إن موت الهمة لمصيبة، والرضا بالأدنى برغم القدرة على الحصول على الأعلى لآفة تصيب طموح المرء منا، فتهبط به من سلم المجد إلى ساحة الكسالى من البشر. لا ترض أن تكون طائرًا كسيحًا فى الحياة، تنتظر ما يجود عليك به هذا أو ذاك، بل اقتحم معترك الحياة، متسلحًا بما لديك من مواهب وقدرات، وواضعًا نصب عينيك هدفًا اخترته لنفسك بعناية، وثق حينها فى توفيق الله لك.
يقول أسطورة الملاكمة الراحل محمد على كلاى: «الأبطال لا يُصنعون فى صالات التدريب، الأبطال يُصنعون من أشياء عميقة فى داخلهم هى: الإرادة والحُلم والرؤية». ويقول أيضا: «لا أحد يبدأ من القمة، عليك أن تشق طريقك إليها».