جثة وثلاثة رؤوس
مسرعا عدت إلى شقتي المكورة أعلى بناية قديمة بشارع الصناديلي، هي لا تبعد كثيرا عن محطة الجيزة، فبمجرد أن وصلت بالقطار سلمت عهدتي لزميلي حسن، هو سائق قطار مثلي.. وأنا هنا لا أقصد أنه مِثليّ بل مثلي.. يوووه أقصد أنني سائق قطار وهو كذلك.. ما إن اجتذب باب الشقة، حتى تفاجأت بوجود جثة، كانت تجلس على كرسي خشبي بالصالة المؤدية إلى حجرة النوم، وبالمناسبة الشقة كلها تتكون من حجرة واحدة، وأنا أصنفها حسب استخدامي لها، ففي الليل هي حجرة نوم، وفي الصباح تتأرجح ما بين غرفة معيشة وغرفة طعام.. وأحيانا تتحول إلى تراس عندما يمن الله علي بفتح الشباك الخشبي العريض الذي يلتهم معظم الجدار الشرقي المطل على خرابة عم سعيد.. والعم سعيد هو..
لا لا، فلننحّ عم سعيد جانبا الآن، فلدينا جثة.. في البداية اعتذرت عن دخولي مباشرة على الجثة دون استئذان، وأقسمت لها إنني لم أكن أعرف بوجودها في منزلي المتواضع، ولكنها وياللغرابة لم ترد علي ولو بكلمة، وأظنها كانت غاضبة مني ولم تتقبل مبرراتي، فليس للمرء أن يدخل بيته دون أن يطرق بابه حتى وإن كان يعيش وحده.. عليك أن تتوقع وجود جثة في شقتك.
على العموم، اتصلت بأمي كي أستفسر منها عن الأمر، فلربما أرسلت هذه الجثة مع أخي الصغير لتؤنس وحدتي، لكن حين رن الهاتف لنحو 32 ثانية ولم ترد أمي علي، تذكرت أنها قد ماتت قبل نحو عامين.. مسكين عقلي هذا، لم يتقبل حتى اليوم فكرة أن أمي قد رحلت.. هذه عادة عقلي اللعين، دائما ينسى أو لنقل يتناسى رحيل من أحبهم.. يفعل ذلك عمدا وكأنه يعاقبني..
رأس الجثة
فلنعد لأمر الجثة، إذ أنني اتصلت بصديقي عمر، وسألته إن كان هو من أرسل الجثة، لكنه أقسم برأس خاله ممدوح أنه لم يفعل، وقال ربما خطيبتي السابقة هي من فعلت ذلك، فهي رغم انفصالنا إلا أنها تمتلك قلبا رقيقا لا يتحمل أن يراني أعيش وحيدا بين البشر.. لم يكن لي أن أهاتف خطيبتي السابقة – التي لم أعد اتذكر اسمها – لهذا قررت أن أتوقف عن البحث في أمر من أرسل الجثة، فدخلت المطبخ وأعددت كوبا من القهوة وضعته أمام الجثة ودخلت غرفتي لأنام، فأنا في أمس الحاجة لثلاث ساعات من الراحة، قبل أن أعود إلى عملي.. قبل أن يغمض لي جفن، رن هاتفي، فتحت عيني اليمنى بصعوبة، وسحبت الموبايل من تحت المخدة، ففجعت حين تعرفت على هوية المتصل.. إنه جعفر رئيس الوردية..
- ألو..
- عد للمحطة حالا، حسن مات وعليك أن تقود أنت القطار بدلا منه..
قبل أن أرد عليه كان الرجل ثقيل الظل والوزن قد أغلق الخط..
ارتديت ملابسي، وفي الصالة وجدت الجثة وفنجان القهوة كما هو، فعرفت أنها ربما لم تشرب منه شيئا لأن القهوة كانت سكر زيادة.. كم أنا غبي، كيف لي أن أجهل أن الجثث تشرب القهوة بدون سكر لتحافظ على رشاقتها!! المهم، حملت الجثة على كتفي ونزلت، فلا يمكن لك أن تترك جثة وحيدة في شقة يسهل للبشر أن يدخلوها بدون استئذان..
في العادة أنا أذهب إلى المحطة مشيا، لكن في حالة حملك لجثة يجب أن تستعين بسيارة تقلكما معا، غير أنني لم أجد سيارة، فأشرت إلى توك توك يقوده «عيل».. لم يتحدث الولد، لكنه حين رآني «ملخوما» في إدخال الجثة في التوك توك، نزل سريعا وقطع رأس الجثة ثم ألقاه إلى الشارع، وبكل سهولة أدخل باقي الجسد في التوك توك وانطلقنا.. في مرآة التوك توك، رأيت الرأس المقطوع يضحك وهو يتدحرج حتى وصل إلى أقدام بعض الأطفال الذين كانوا يبحثون عن كرة يضيعون بها الوقت..
إلى كابينة القيادة، دخل رئيس الوردية، وناول الجثة سيجارة مشتعلة، ثم قال لي بلهجة حادة:
- الجثة على عيني وراسي، لكن لا يمكن أن تظل معك في الكابينة
- وماذا أفعل يا ريس؟
- اقطع لها تذكرة وأجلسها بين الركاب
فعلت ما طلبه مني جعفر، وقبل أن أعود إلى الكابينة لأنطلق بالقطار، نادى علي مساعدي رأفت، وأخبرني أن معركة قد نشبت بين الجثة وأحد الركاب، فكلاهما يريد أن يجلس إلى جوار النافذة..
لم يكن للجثة أن تتحدث، بعدما فقدت رأسها، بيد أن ذراعاها القويان كان كفيلان بحسم الخلاف لصالحها، فاستقرت إلى جوار النافذة، بينما كان الرجل الآخر الذي تعارك معها ينزف بغزارة من عينه اليمنى، فقبلت رأسه مستسمحا إياه، وأفهمته أن عدم وجود رأس للجثة يعني أنها أحق بالجلوس في هذا المكان، لأن من يقعدون إلى جوار النوافذ تبقى رؤوسهم عرضة للضياع، إذا ما أطلوا برؤوسهم خارج القطار في حالة مرور قطار مقابل..
اقتنع الرجل وأصر على أن يصالح الجثة، بأن يقبل رأسها، فذكرته بأن الجثة بلا رأس فأقسم أن يعيرها رأسه.. ولما باءت كل محاولتي أنا وباقي الركاب بالفشل في إقناعه بالاحتفاظ برأسه، اقتلعه الرجل كمن يفك لمبة قلاوظ من الدواية، ثم وضعها بإحكام بين كتفي الجثة..
الآن بات للجثة رأس، لكننا واجهنا مشكلة جديدة، فالرجل يصر على تقبيل رأس الجثة، غير أنه هو الآن بلا فم، فقد منح رأسه مشتملا الفم للجثة.. كدنا ندخل معمعة جديدة، قبل أن تتبرع سيدة عجوز برأسها لتنهي الأمر، قالت إنها ملت من رأسها هذا، فخلعته وذهبت لتضعه بين كتفي الرجل، وحين شاهدها شاب ريفي، غلت الدماء في عروقه وخلع رأسه مقسما أنه لا يجوز أن تفعل عجوز مثل هذا الأمر بينما هو واقف وصاح «أين الشهامة.. أين المروءة؟!».
ويبدو أن العدوى قد طالت الجميع، إذ تسابق باقي الركاب في خلع رؤوسهم، ولما لم يكن لكتفي الرجل أن يحملا أكثر من رأس، تكوم أمامنا هرم من الرؤوس لأطفال وشيوخ وشبان ونسوة وفتيات.. وهكذا أصبح كل من في القطار بلا رؤوس.. عدا الجثة!! جثة برأس رجل غريب، في مواجهة أحياء بلا رؤوس!! قد يظن البعض منكم أن الجثة استغلت الأمر وانتقمت منا، لكن ذلك لم يحدث، إذ وقفت الجثة أعلى الهرم، وراحت توزع الرؤوس علينا، لكنها لم تكن تهتم بإعادة كل رأس لصاحبه، بل راحت تركبها بشكل عشوائي، فبات الوضع كما هو آت: عجوز برأس طفل.. شاب برأس امرأة.. طفل برأس والدته.. فتاة برأس رجل خمسيني..
بين الجحيم والنعيم
قادت الجثة القطار، بينما كنا نحن نحاول التوصل إلى اتفاق بشأن التعامل في ما بيننا، هل نسمي الواحد منا وفقا لرأسه أم لباقي جسده، فمثلا ذلك العجوز الذي يعتلي كتفيه رأس طفل، أيكون رجلا حكيما أم طفلا طائشا! أننصبه كبيرا أم نعده أصغر ما فينا! أنوليه أمرنا أم نتولى نحن شئونه؟! ظل الجدال يسير بيننا حتى توقف القطار.. ماذا؟ لقد وصلنا محطتنا الأخيرة.. إنه الجحيم.. لقد قادتنا الجثة إلى الجحيم.. وهذا ليس مدهشا إذ ما عرفتم ماذا حدث بعد..
داخل الجحيم وبعد أن استقر بنا المقام ورضينا بنهايتنا، جاء أحدهم وأخبرنا أنه يتعين علينا مغادرة المكان، مبررًا ذلك بأن هيئتنا لا تؤهلنا للبقاء في الجحيم.. خرجنا جميعا وتوجهنا إلى الخيار الثاني المتاح وهو النعيم، وعندما طرقنا الباب، تفحص أحدهم صحيفة كانت بين يديه، وصاح:
- اذهبوا بعيدا ليس لكم مكان هنا..
بدون نقاش ابتعدنا عن بوابة النعيم، فاقترحت الفتاة التي يعلو كتفيها رأس شاب أن نعود بالقطار من حيث أتينا، لكننا حين حاولنا إعادة تشغيل القطار لم يزأر أيا من محركاته!!
لخمس ليال لم تنجح محاولاتنا إعادة تشغيل القطار، كنا خلالها نبك ونصرخ ونلطم وجوه بعضنا البعض، إلى أن وهنت قوانا فدخلنا في غيبوبة جماعية، وحين استيقظنا اقترح الشيخ الذي يعلو كتفيه رأس طفل أن نبني حولنا وطننا في تلك المساحة ما بين الجحيم والنعيم، ولما لم يكن هناك مفر، بدأنا في البحث عن مواد نبني بها بيوتا تحتضننا، غير أنه لم يكن هناك سوى القطار.. وهكذا أصبح القطار المعطل وطننا..