في ذكرى 23 يوليو.. من مقال «المصارحة» إلى جلسة «المناقشة».. «هيكل» يمهد طريق «عبد الناصر» لـ «تأميم الصحافة المصرية»
قبل عام وخمسة أشهر و26 يومًا، من
تصديق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على القانون 156 لسنة 1960، المعروف بقانون
«تنظيم الصحافة»، الذي أرسى به قواعد «تأميم الصحافة»، كتب الصحفي الراحل محمد
حسنين هيكل، مقالًا في 28 سبتمبر 1958، تحت عنوان «حرية الرأي»، يمكن القول أنه
كان بمثابة «التمهيد للتأميم».
التمهيد للتأميم
فـ«هيكل» الذي كان معروفًا عنه أنه «الجورنالجي» المفضل لدى «ناصر»، والكاتب الذي يمتلك المقدرة على تحويل الأفكار التي تدور في عقل الرئيس إلى «كلام مكتوب»، عبر في مقاله هذا عن كل ما كان يرفضه «عبد الناصر» فيما تتداوله الصحف الخاصة، وموقفه من مجالس إداراتها، ليتحقق كل ما ورد في المقال، ويصبح أمرًا واقعًا بـ«توقيع الرئيس».
الرأي الحر.. وأسباب عدم الممارسة
وقال«هيكل» في المقال»: «من أهم المسائل التي نواجهها اليوم مشكلة حرية الرأي، بل انها أكبر كثيرا من الحد المفهوم من وصف المشكلة، ذلك أنه في هذه المرحلة من تاريخ تطورنا السياسي والاجتماعي والفكري لا بد أن يبرز الرأي الحر ليكون المقدمة الحقيقية للركب وهو يسير والدليل الأمين للقافلة وهي تسعى نحو المستقبل، ولكن الرأي الحر في بلادنا لا يمارس الآن هذا الدور الخطير, لعدة أسباب، منها أسباب عامة تتصل بظروف الحياة، وأسباب خاصة متصلة بأدوات التعبير عن الرأي ووسائله».
الرقابة و«قيد الداخل»
وأضاف: من الأسباب العامة مثلا: انه في ظروف الحياة السريعة التي نعيشها الآن طغى الخبر على الرأي وغطت الحادثة على الفكرة، ومن الأسباب الخاصة المتصلة بأدوات التعبير أن الصحافة وهي أول هذه الأدوات تعيش تحت رقابة قاسية، والمحنة الحقيقية ان هذه الرقابة ليست فرضا على الصحافة من الخارج، وإنما هي قيد من الداخل، والأسباب كثيرة.
أولها، أن صحافتنا في كثير من الأحيان لم تستطع أن تتحول بعد عن كونها صحافة شخصية، ومن هنا فإن تعبيرها عن الرأي الخاص لأصحابها ومحرريها أشد ظهورا من تعبيرها عن الرأي العام لمجتمع بأكمله على اختلاف طبقاته، وثانيهما، أن صحافتنا حين أعوزها إيمانها الأصيل بغايات محددة ووسائل إلى هذه الغايات تركت رسالة التوجيه واقتصرت على المسايرة) , و(مسايرة) الحوادث على علاتها و(مسايرة) التطورات كما تجيء، من هنا وهذه حقيقة فرضت الصحافة على نفسها ما لم يفرضه عليها غيرها أخذا بالأحوط والأسهل وإيثاراً للعافية والسلامة.
«حرية الرأي.. حرية المناقشة»
كما تحدث «هيكل» عن «الرقابة» وقال: «وثمة من يتصورون أن هناك رقابة من الدولة على الصحف تقيد أيديها وتعجز أقلامها، وليست تلك هي الحقيقة لحسن الحظ، وما من شك في أن هناك قيودا على نشر التحركات العسكرية مثلا وعلى بعض المسائل المتصلة بأمن الدولة الخارجي ولكنه فيما عدا ذلك ليس هناك من يفرض علينا السكوت، إن الحقيقة، أننا. نحن الصحافة سكتنا حين زحمتنا الحوادث فلم نجد لنا في وسطها رأيا، وحين بقينا على هامش التطورات نسايرها.
ولا نغوص في أعماقها بحثا عن الإيمان نجاهر به ونقاتل دفاعا عنه، على انه ينبغي أن يكون هناك مفهوم لحرية الرأي، إن حرية الرأي ليست العناوين الثائرة الغاضبة على شخص بعينه وليست الحملات المنطلقة في ضراوة ووحشية تبحث عن كبش فداء.
إن حرية الرأي هي حرية المناقشة، إن الفكرة المتحررة داخل العقل مقدمة, وانطلاق هذا الفكر حديثا ناطقا على اللسان أوحديثا صامتا على الورق نتيجة, وبغير المقدمات لا يمكن الوصول إلى النتائج وبغير النتائج لا تصبح للمقدمات فائدة, هذا هو فهمنا لحرية الرأي».
«من التأميم إلى التنظيم».. الصحافة فصل في كتاب
موقف «هيكل» من «تأميم الصحافة» أو «تنظيمها» لم يتوقف عند حد مقال «حرية الرأي»، لكنه عاد في كتابه الشهير «بين الصحافة والسياسة.. قصة (ووثائق) معركة غريبة في الحرب الخفية» وتحدث عن الأمر ذاته، لكنه هنا ألقى الضوء على ما وصفه بـ«النقاشات الساخنة» التي كانت تدور بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر حول «الصحافة المصرية».
وقال «هيكل»: انقضت سنوات 1957، 1958، 1959، وبدأت سنة 1960، ولم يكن هناك شيء إلا إشارات جمال عبد الناصر بين حين وآخر إلى أوضاع الصحافة المصرية، منذ أول يوم في الثورة لم يكن راضيًا عن الظروف المحيطة بملكية الصحافة في مصر، كان يعتقد أن «آل زيدان» أصحاب «دار الهلال» و«آل تقلا» أصحاب «الأهرام» و«آل النمر» أصحاب «المقطم» قد أدوا دورهم في مرحلة معينة من تاريخ مصر.
لكن مصر الآن أمام مرحلة جديدة لا يستطيعون مسايرتها، وكانت له تجربة مزعجة مع «آل أبو الفتح» أصحاب «المصري» كما أن علامة استفهام ظلت طوال الوثت على «آل أمين» أصحاب «أخبار اليوم»، ولم يكن جمال عبد الناصر، في أي وقت من الأوقات يفصل بين المال وهوى صاحبه، وكان رأيه أن هوى ك صاحب مال تربتط بمصالحه، وغير ذلك غير جائز، وإذا جاز فهو مؤقت تفرضه ضرورات.
مناقشات الـ 8 سنوات
وأضاف: كانت بيننا مناقشات طويلة امتدت من سنة 1952 إلى سنة 1960، حول ملكية الصحافة في مصر. لم يكن راضيًا عن الملكية الفردية أو العائلية للصحف، وكنت أرى غير رأيه وأناقشه مطولًا ومفصلًا.
وفي بعض الأحيان كنت أستطيع أن أفهمه، ولكني لم أكن أتصور في نفس الوقت أن تتحول الصحف من ملكية الأفراد أو العائلات إلى ملكية الدولة، فقد بدت لي تلك كارثة الكوارث، ولم يكن هناك حل وسط.
وتابع: أعتقد بأمانة أنني وقفت في الفترة ما بين سنة 1956 إلى سنة 1960 وحدي تقريبًا في محاولة الدفاع عن «الواقع الراهن في الصحافة» حتى لو أدى الأمر إلى بقاء ملكية الأفراد والعائلات، فقد بدا لي ذلك أهون الضررين وأخف الشرين، وكان للثورة وقائدها وللتنظيم السياسي ورجاله رأي آخر.. ثم جاءت ظروف وتحولات.
جلسة في بيت الزعيم
وأكمل: دعاني جمال عبد الناصر إلى بيته وجلسنا معًا لواحدة من أصعب مقابلاتنا، قال لي أنه مهما كانت آرائي في موضوع الصحافة فهو الآن وصل إلى اقتناع كامل بأنه لا يستطيع أن يترك الأمور كما هي، واستدرك يقول: «لا تتصور أنني أريد أن أتخلص من أحد.
لو أردت أن أتخلص من أحد، فأنت تعرف أن لدىّ من الشجاعة والسلطة ما يسمح لي بان أقول له اذهب إلى بيتك، ثم إنك ترى أن الكل يتسابق إلى التأييد أحيانًا بأكثر مما أريد، لكن القضية أكبر من ذلك»، ثم قال: «أنت تعلم أن لديّ تحفظاتي ولديّ شكوكي حتى في الذين يتسابقون إلى التأييد، ومع ذلك فهذه التحفظات والشكوك لا أقر لها فيما أعتزمه الآن، كما قلت لك هناك قضية أهم».
«ناصر» وأزمة «الثقة في الخائف»
ثم استطرد: «إننا مقبلون على تحولات اجتماعية كبيرة، وقد بدأت هذه التحولات بتأميم البنك الأهلي وبنك مصر، إذا كنا نريد حقًا تنفيذ خطة للتنمية، وإذا كنا نريد إجراء تحولات اجتماعية عميقة في مصر فلا بديل عن سيطرة المجتمع على وسائل المال والإنتاج، ولا أستطيع عقلًا ولا عدلًا أن أفرض سيطرة المجتمع على الاقتصاد.
ثم أترك لمجموعة من الأفراد أن يسيطروا على الإعلام، إنهم لا يسيطرون الآن عمليًا لأن الثورة قوية، وذلك مجرد خوف، وأنا لا أثق في خائف خاصة إذا تغيرت الظروف، ثم إن المرحلة الجديدة من التحول الاجتماعي تحتاج إلىى تعبئة اجتماعية شاملة، وأعرف أن الموجودين الآن سوف سصفقون لأي قرار، لكن المطلوب شيء آخر غير التصفيق».
وكشف «هيكل» أن جمال عبد الناصر راح في هذا اللقاء يستعرض بعض الأسماء وبعض أنماط السلوك مما الا أريد أن أعرض له الآن، ورحت أناقشه وأحاوره، وإن بدا لحظة بعد أخرى أنني على وشك أن أخسر نتيجة المناقشة والحوار، وكانت القضية بالنسبة له قضية مبدأ، وهو مبدأ يتصل بعيره من المبادئ التي تحكم رؤيته لمدى التحولات الاجتماعية التي يريدها في مصر.
مقترح «الملكية المشتركة»
وقال: ثم قال لي جمال عبد الناصر: «إن ما يدهشني انك تنظر إلى الموضوع بحساسية شديدة، ثم إنك تنظر إليه من وجهة نظر أشخاص»، وقلت «إن خشيتي في الواقع على المهنة»، وكان رده: «فكر في أي ضمانات تريدها للمهنة، ولنلتق هنا غدًا في الحادية عشرة صباحًا، وسوف يكون معنا محمد فهمي السيد، المستشار القانوني للرئاسة وقتها.
وفي اليوم التالي حاولت بكل ما أستطيع، وربحت بعض النقط وخسرت بعضها الآخر، ربحت – فيما أظن – عندما استطعت أن أستبعد منطق التأميم بحدوده القاطعة، ووصلنا إلى صيغة أخرى تسمح بمرونة، وهكذا كان «تنظيم الصحافة» وليس «تأميمها».
وأضاف: حاولت أن أجعل الملكية مشتركة بين التنظيم السياسي وبين جمعية العاملين في كل دار صحفية: 50% لكل فريق، ولم يقبل جمال عبد الناصر وخرج باقتراح وس، انتقال الملكية إلى التنظيم السياسي وليس إلى الدولة واحتفاظ كل صحيفة بأرباحها داخلها.
ثم توزيع هذه الأرباح مناصفة: نصف للتجديد والإحلال في دور الصحف، ونصف لجمعية العاملين في كل دار صحفية، واعترضت على المذكرة التفصيلية للقانون، فقد أحسست أن المنطق والمبررات والأسانيد الواردة فيها يمكن أن تحتمل ما يمكن اعتباره نقدًا لما كانت عليه الأحوال في المهنة الأمر الذي استوجب إعادة ترتيب هذه الأحوال بالقانون.
صبر الرئيس ومذكرة «هيكل»
وأختتم «هيكل» حديثه بقوله: أشهد أن جمال عبد الناصر كان صبورًا، فقد قال لي: «دعك من مذكرة فهمي، واكتب أنت واحدة غيرها»، وكتبت مذكرة كانت في الواقع إعلانًا بتأكيد حرية الصحافة أكثر منها مذكرة تفسيرة لنصوص القانون القانونرقم 156، الذي صدر فعلا في 24 مايو 1960.
التمهيد للتأميم
فـ«هيكل» الذي كان معروفًا عنه أنه «الجورنالجي» المفضل لدى «ناصر»، والكاتب الذي يمتلك المقدرة على تحويل الأفكار التي تدور في عقل الرئيس إلى «كلام مكتوب»، عبر في مقاله هذا عن كل ما كان يرفضه «عبد الناصر» فيما تتداوله الصحف الخاصة، وموقفه من مجالس إداراتها، ليتحقق كل ما ورد في المقال، ويصبح أمرًا واقعًا بـ«توقيع الرئيس».
الرأي الحر.. وأسباب عدم الممارسة
وقال«هيكل» في المقال»: «من أهم المسائل التي نواجهها اليوم مشكلة حرية الرأي، بل انها أكبر كثيرا من الحد المفهوم من وصف المشكلة، ذلك أنه في هذه المرحلة من تاريخ تطورنا السياسي والاجتماعي والفكري لا بد أن يبرز الرأي الحر ليكون المقدمة الحقيقية للركب وهو يسير والدليل الأمين للقافلة وهي تسعى نحو المستقبل، ولكن الرأي الحر في بلادنا لا يمارس الآن هذا الدور الخطير, لعدة أسباب، منها أسباب عامة تتصل بظروف الحياة، وأسباب خاصة متصلة بأدوات التعبير عن الرأي ووسائله».
الرقابة و«قيد الداخل»
وأضاف: من الأسباب العامة مثلا: انه في ظروف الحياة السريعة التي نعيشها الآن طغى الخبر على الرأي وغطت الحادثة على الفكرة، ومن الأسباب الخاصة المتصلة بأدوات التعبير أن الصحافة وهي أول هذه الأدوات تعيش تحت رقابة قاسية، والمحنة الحقيقية ان هذه الرقابة ليست فرضا على الصحافة من الخارج، وإنما هي قيد من الداخل، والأسباب كثيرة.
أولها، أن صحافتنا في كثير من الأحيان لم تستطع أن تتحول بعد عن كونها صحافة شخصية، ومن هنا فإن تعبيرها عن الرأي الخاص لأصحابها ومحرريها أشد ظهورا من تعبيرها عن الرأي العام لمجتمع بأكمله على اختلاف طبقاته، وثانيهما، أن صحافتنا حين أعوزها إيمانها الأصيل بغايات محددة ووسائل إلى هذه الغايات تركت رسالة التوجيه واقتصرت على المسايرة) , و(مسايرة) الحوادث على علاتها و(مسايرة) التطورات كما تجيء، من هنا وهذه حقيقة فرضت الصحافة على نفسها ما لم يفرضه عليها غيرها أخذا بالأحوط والأسهل وإيثاراً للعافية والسلامة.
«حرية الرأي.. حرية المناقشة»
كما تحدث «هيكل» عن «الرقابة» وقال: «وثمة من يتصورون أن هناك رقابة من الدولة على الصحف تقيد أيديها وتعجز أقلامها، وليست تلك هي الحقيقة لحسن الحظ، وما من شك في أن هناك قيودا على نشر التحركات العسكرية مثلا وعلى بعض المسائل المتصلة بأمن الدولة الخارجي ولكنه فيما عدا ذلك ليس هناك من يفرض علينا السكوت، إن الحقيقة، أننا. نحن الصحافة سكتنا حين زحمتنا الحوادث فلم نجد لنا في وسطها رأيا، وحين بقينا على هامش التطورات نسايرها.
ولا نغوص في أعماقها بحثا عن الإيمان نجاهر به ونقاتل دفاعا عنه، على انه ينبغي أن يكون هناك مفهوم لحرية الرأي، إن حرية الرأي ليست العناوين الثائرة الغاضبة على شخص بعينه وليست الحملات المنطلقة في ضراوة ووحشية تبحث عن كبش فداء.
إن حرية الرأي هي حرية المناقشة، إن الفكرة المتحررة داخل العقل مقدمة, وانطلاق هذا الفكر حديثا ناطقا على اللسان أوحديثا صامتا على الورق نتيجة, وبغير المقدمات لا يمكن الوصول إلى النتائج وبغير النتائج لا تصبح للمقدمات فائدة, هذا هو فهمنا لحرية الرأي».
«من التأميم إلى التنظيم».. الصحافة فصل في كتاب
موقف «هيكل» من «تأميم الصحافة» أو «تنظيمها» لم يتوقف عند حد مقال «حرية الرأي»، لكنه عاد في كتابه الشهير «بين الصحافة والسياسة.. قصة (ووثائق) معركة غريبة في الحرب الخفية» وتحدث عن الأمر ذاته، لكنه هنا ألقى الضوء على ما وصفه بـ«النقاشات الساخنة» التي كانت تدور بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر حول «الصحافة المصرية».
وقال «هيكل»: انقضت سنوات 1957، 1958، 1959، وبدأت سنة 1960، ولم يكن هناك شيء إلا إشارات جمال عبد الناصر بين حين وآخر إلى أوضاع الصحافة المصرية، منذ أول يوم في الثورة لم يكن راضيًا عن الظروف المحيطة بملكية الصحافة في مصر، كان يعتقد أن «آل زيدان» أصحاب «دار الهلال» و«آل تقلا» أصحاب «الأهرام» و«آل النمر» أصحاب «المقطم» قد أدوا دورهم في مرحلة معينة من تاريخ مصر.
لكن مصر الآن أمام مرحلة جديدة لا يستطيعون مسايرتها، وكانت له تجربة مزعجة مع «آل أبو الفتح» أصحاب «المصري» كما أن علامة استفهام ظلت طوال الوثت على «آل أمين» أصحاب «أخبار اليوم»، ولم يكن جمال عبد الناصر، في أي وقت من الأوقات يفصل بين المال وهوى صاحبه، وكان رأيه أن هوى ك صاحب مال تربتط بمصالحه، وغير ذلك غير جائز، وإذا جاز فهو مؤقت تفرضه ضرورات.
مناقشات الـ 8 سنوات
وأضاف: كانت بيننا مناقشات طويلة امتدت من سنة 1952 إلى سنة 1960، حول ملكية الصحافة في مصر. لم يكن راضيًا عن الملكية الفردية أو العائلية للصحف، وكنت أرى غير رأيه وأناقشه مطولًا ومفصلًا.
وفي بعض الأحيان كنت أستطيع أن أفهمه، ولكني لم أكن أتصور في نفس الوقت أن تتحول الصحف من ملكية الأفراد أو العائلات إلى ملكية الدولة، فقد بدت لي تلك كارثة الكوارث، ولم يكن هناك حل وسط.
وتابع: أعتقد بأمانة أنني وقفت في الفترة ما بين سنة 1956 إلى سنة 1960 وحدي تقريبًا في محاولة الدفاع عن «الواقع الراهن في الصحافة» حتى لو أدى الأمر إلى بقاء ملكية الأفراد والعائلات، فقد بدا لي ذلك أهون الضررين وأخف الشرين، وكان للثورة وقائدها وللتنظيم السياسي ورجاله رأي آخر.. ثم جاءت ظروف وتحولات.
جلسة في بيت الزعيم
وأكمل: دعاني جمال عبد الناصر إلى بيته وجلسنا معًا لواحدة من أصعب مقابلاتنا، قال لي أنه مهما كانت آرائي في موضوع الصحافة فهو الآن وصل إلى اقتناع كامل بأنه لا يستطيع أن يترك الأمور كما هي، واستدرك يقول: «لا تتصور أنني أريد أن أتخلص من أحد.
لو أردت أن أتخلص من أحد، فأنت تعرف أن لدىّ من الشجاعة والسلطة ما يسمح لي بان أقول له اذهب إلى بيتك، ثم إنك ترى أن الكل يتسابق إلى التأييد أحيانًا بأكثر مما أريد، لكن القضية أكبر من ذلك»، ثم قال: «أنت تعلم أن لديّ تحفظاتي ولديّ شكوكي حتى في الذين يتسابقون إلى التأييد، ومع ذلك فهذه التحفظات والشكوك لا أقر لها فيما أعتزمه الآن، كما قلت لك هناك قضية أهم».
«ناصر» وأزمة «الثقة في الخائف»
ثم استطرد: «إننا مقبلون على تحولات اجتماعية كبيرة، وقد بدأت هذه التحولات بتأميم البنك الأهلي وبنك مصر، إذا كنا نريد حقًا تنفيذ خطة للتنمية، وإذا كنا نريد إجراء تحولات اجتماعية عميقة في مصر فلا بديل عن سيطرة المجتمع على وسائل المال والإنتاج، ولا أستطيع عقلًا ولا عدلًا أن أفرض سيطرة المجتمع على الاقتصاد.
ثم أترك لمجموعة من الأفراد أن يسيطروا على الإعلام، إنهم لا يسيطرون الآن عمليًا لأن الثورة قوية، وذلك مجرد خوف، وأنا لا أثق في خائف خاصة إذا تغيرت الظروف، ثم إن المرحلة الجديدة من التحول الاجتماعي تحتاج إلىى تعبئة اجتماعية شاملة، وأعرف أن الموجودين الآن سوف سصفقون لأي قرار، لكن المطلوب شيء آخر غير التصفيق».
وكشف «هيكل» أن جمال عبد الناصر راح في هذا اللقاء يستعرض بعض الأسماء وبعض أنماط السلوك مما الا أريد أن أعرض له الآن، ورحت أناقشه وأحاوره، وإن بدا لحظة بعد أخرى أنني على وشك أن أخسر نتيجة المناقشة والحوار، وكانت القضية بالنسبة له قضية مبدأ، وهو مبدأ يتصل بعيره من المبادئ التي تحكم رؤيته لمدى التحولات الاجتماعية التي يريدها في مصر.
مقترح «الملكية المشتركة»
وقال: ثم قال لي جمال عبد الناصر: «إن ما يدهشني انك تنظر إلى الموضوع بحساسية شديدة، ثم إنك تنظر إليه من وجهة نظر أشخاص»، وقلت «إن خشيتي في الواقع على المهنة»، وكان رده: «فكر في أي ضمانات تريدها للمهنة، ولنلتق هنا غدًا في الحادية عشرة صباحًا، وسوف يكون معنا محمد فهمي السيد، المستشار القانوني للرئاسة وقتها.
وفي اليوم التالي حاولت بكل ما أستطيع، وربحت بعض النقط وخسرت بعضها الآخر، ربحت – فيما أظن – عندما استطعت أن أستبعد منطق التأميم بحدوده القاطعة، ووصلنا إلى صيغة أخرى تسمح بمرونة، وهكذا كان «تنظيم الصحافة» وليس «تأميمها».
وأضاف: حاولت أن أجعل الملكية مشتركة بين التنظيم السياسي وبين جمعية العاملين في كل دار صحفية: 50% لكل فريق، ولم يقبل جمال عبد الناصر وخرج باقتراح وس، انتقال الملكية إلى التنظيم السياسي وليس إلى الدولة واحتفاظ كل صحيفة بأرباحها داخلها.
ثم توزيع هذه الأرباح مناصفة: نصف للتجديد والإحلال في دور الصحف، ونصف لجمعية العاملين في كل دار صحفية، واعترضت على المذكرة التفصيلية للقانون، فقد أحسست أن المنطق والمبررات والأسانيد الواردة فيها يمكن أن تحتمل ما يمكن اعتباره نقدًا لما كانت عليه الأحوال في المهنة الأمر الذي استوجب إعادة ترتيب هذه الأحوال بالقانون.
صبر الرئيس ومذكرة «هيكل»
وأختتم «هيكل» حديثه بقوله: أشهد أن جمال عبد الناصر كان صبورًا، فقد قال لي: «دعك من مذكرة فهمي، واكتب أنت واحدة غيرها»، وكتبت مذكرة كانت في الواقع إعلانًا بتأكيد حرية الصحافة أكثر منها مذكرة تفسيرة لنصوص القانون القانونرقم 156، الذي صدر فعلا في 24 مايو 1960.