رئيس التحرير
عصام كامل

كابوس المساء الحزين!

بداية أعذر أي صاحب قرار في هذا التوقيت الدقيق الذي تختلط  فيه الأمور وتتشابك المعلومات وتختلف الآراء الاستشارية بحيث تصبح في النهاية أمام أي صاحب القرار كرة من الخيط، تشابكت خيوطها وتعقدت بشكل يصعب فكها من جهة، والوصول إلى بداية الخيط لتتبع مسار المشكلة التي تبحث عن حل من جهة ثانية لكن من قال إن الغلق أو البيع أو التصفية هي الحل لمصنع خاسر أو جريدة لبتعد عنها قراءها أو قناة لنصرف عنها مشاهديها.. 


 قد يكون البيع أو التصفية هي الحل الأسهل ولكن ليس الأفضل طبعا.. والأصعب هو  المواجهة والعلاج والإصلاح.. من قال أن قتل المريض هو الحل حين يتأخر الشفاء أو حتى حين يصبح العلاج أقرب من اللستحالة دون لعتبار لرحمة الله.. نعم  الفارق كبير بين الجزار والطبيب والتاجر!

الجزار يذبح ولايهمه الضحية لأن عينه على  لحم الضحية فقط، ولا يهمه الروح والعقل والوجدان.. فقط يهمه جسد الضحية بعد ذبحها وسلخها !! والتاجر لا يعرف عقله وجيبه إلا المكسب والخسارة، ولا مكان للوجدان طبعا.. لكن الطبيب يشخص ويعالج ويداوي، وحتى لو لضطر للستخدام مشرط الجراح يكون هدفه حياة المريض وخروجه من مستشفاه معاف على قدميه.. وحتى لو صدر القرار الألهي بالرحيل يكون الطبيب قد استنفذ كل أدوات العلاج وصار مستريح الضمير وهادئ النفس.

وما يصلح لذبيحة قد يصلح لمنشأة ولا يصلح لأخرى.. لكن يبقى الطبيب هو الحل بشرط أساسي: من فشل في وصف العلاج ينحي من مكانه ويستبعد، على الأقل لأنه لايملك حلا، ويتم الاستعانة فورا بآخر خاصة إننا في مصر نعاني من الوفرة في الكفاءات الحقيقية في كافة المجالات، لكن أصحابها تحتاج الذهاب إليها لنستعين بها..

باختصار ما يصلح للأشياء والمنشأت المادية لا يصلح أبدا للمجالات والأنشطة المعنوية.. والصحافة والإعلام والفنون.. وباقي أدوات القوى الناعمة لا يمكن أن تطبق عليها معايير أي ذبيحة أو منشأة تجارية من مكسب وخسارة مادية..   

خسائر الصحف القومية
الجريدة والقناة التليفزيونية ومحطة الراديو مثلا ليست ككشك سجاير أو سوبر ماركت إذا خسرت نغلقها أو نحول نشاطها.. لأن تأثيرها المعنوي أكبر بكثير من أي مكسب والذي يجب أن يقاس بدقة وبمعايير تختلف كثيرا عن حسابات المكسب والخسارة المادية على المدى القريب أو البعيد.. ومع ذلك قد ينفع منطق المكسب والخسارة فى جريدة أو قناة خاصة لإنها تعتمد على المال الخاص لصاحبها أو أصحابها.. فلم يسألهم أحد لماذا أنشئوها وبالتالي، لن يسألهم أحد لماذا يغلقوها إذا قرروا ذلك، وقد يكونوا قد حققوا  الهدف أو لم يحققوا، المالك وحده صاحب وسيد قراره، فمن حكم في ماله ما ظلم !!

لكن الأمر مختلف في الصحف والأدوات الإعلامية القومية، وأنا أقول القومية وليست الحكومية.. والفارق كبير طبعا بين المسميين، وهذا أحد أسباب النتيجة التي وصلنا اليها.. الصحافة القومية تعنى إنها ملك للدولة يعنى ملكا للشعب وكل مؤسسات الدولة.. الخ.. والمالك هنا دائم الوجود بوجود الدولة، وخالد بخلود الشعب.. لذلك من المفترض على هذه الصحف والأدوات الإعلامية أن تعبر فقط عن مصالح صاحبها وهو الشعب دون تحيز أو تحزب لحكومة أو حزب أو مؤسسة أو كيان.. الكل سواسية، لهم كل الحقوق في المعرفة والتعبيروالتواجد، ولا تكون أبدا صوتا لحكومة أو بوقا لفريق على حساب مؤسسات الشعب الأخرى.

أما مسمى  الصحف الحكومية الذي راج وانتشر فهو يعني أنها صحف  خاصة بحكومة قد تتغير بيد من جاء بها، أقصد الشعب.. يعنى إذا كانت الصحف بوقا للحكومة فهى منبر لصاحب مصلحة غير دائم ولم تعد منبرا لكل مفردات الدولة وهو يعني أنها صارت ضد مصلحة صاحبها الأصلي وهو الشعب والفارق بين المسميين هو سبب الكارثة بعد اختلاط المفاهيم والرؤى!

واذا كانت الدولة في المقدمة وليست الحكومة طبعا، والشعب هو الأصل ومصدر كل السلطات والمالك الأصلي فتكون الأسئلة مشروعة: هل تفرط الدولة وليس الحكومة فى أدواتها الإعلامية بهذه السهولة؟ بماذا تحارب الدولة داخليا وخارجيا كل من يحاول النيل منها فى عصر من أهم سماته الحروب الاعلامية؟ هل إغلاق جريدة أو مجلة سيقضي على الخسائر من المنظور الاقتصادى البحت أم سيقلل منها فقط؟

من الناحية الاقتصادية
وهذا هو المبرر الذي  يعتمد عليه فريق الإصلاحين كمبرر للإغلاق أو التحويل.. وإذا كان التقليل هو الإجابة فبأى قدر سيقلل من الخسائر؟ وهل يتناسب ذلك مع ما سنفقده كدولة بخسارة أحد أدواتنا الإعلامية خاصة إذا كانت من إحدى ركائز المواجهة الإعلامية والتنويرية؟
أعرف إننى أقف ضد تيارات مختلفة من إصلاحيين أصحاب نوايا صادقة إلى شامتين أو مغرضين أو متربصين أو أعداء للوطن.. إختلفت النوايا والتوجهات والأهداف.. لكن النتيجة واحدة، الكل رفع سكينة وهوى بها على رقبة صاحبة الجلالة.  بل و يفكر في الضحايا الجدد خاصة، ويساعده في ذلك ويعضد من موقفه الظاهرى ولنكن صرحاء بعد أن فقدت وبشكل ما هذه الصحف والأدوات الإعلامية التعاطف الجماهيرى..

بعد محاولات شيطنتها بعد ثورة 25 يناير من جهة، وبين إنتقاد الحكومة لها بسبب ضعف تأثيرها على المستوى الشعبى وتدنى مستويات التوزيع بشكل عام.. ولم يسأل أحد من المسؤل عن هذا الوضع؟ للأسف الكل يعرف الأسباب خاصة أبناء المهنة ولكن لا توجد أذن تصغى وإذا وجدت فهى من طين أو على أقصى تقدير من عجين!

وتستمر الأسئلة: ماذا فعلت الحكومة في المسؤلين السابقين في عصر مبارك الذين تسببوا في ديون هذه الصحف التي وصلت للمليارات بالفوائد البنكية المغالى فيها وتطالبوننا الآن أن ندفع ثمنها بموت هذه الصحف.. يعنى لم تحاسب الحكومة من تسبب فيها أو تسقطها كما تتعامل مع رجال الأعمال إياهم أو تحاسبنا على أصل الدين بعد أن تضاعفت الفوائد وفاقت الدين الأصلى بأضعاف مضاعفة كما تنص بنود القانون.

ألم تسأل الحكومة نفسها أوتحاسب مسؤليها عن المعايير التي طبقوها لإختيار القيادات التي تولت أمر هذه المؤسات طوال عهودها قبل 25 يناير وبعدها وتسببت في هذه الكوارث، من يدفع الثمن الآن: العاملون والاداريون والصحفيون، أم الشعب الذى سيفقد أحد أدواته التنويرية أم الدولة التي ستفقد أحد أسلحتها الإعلامية؟!

وبالحسبة الإقتصادية التي  كانت الدافع وراء هذا القرار يكون السؤال المنطقى: هل ثمن الورق وتكلفة الطباعة هو سبب الخسائر في جرائد ومجلات لا توزع ؟ وهو بالمناسبة أقل عامل من عوامل معادلة الخسارة. بهدوء تعالو نناقش الأمر بعد قرار الإغلاق أو التحويل لثلاث جرائد مسائية ومن قبل جريدة الرأي في دار التحرير والآن المساء التابعة أيضا لدار التحرير.

لم يتم إستثناء جريدة المساء أعرق جريدة مسائية فى الشرق الأوسط.. وقرار غلق المساء ليس خطأ  كما أعتقد ولكن خطيئة تصل إلى حد الكبائر فى عالم الصحافة،  أقول لماذا لم يتم إستثناء المساء لإنها الأعرق والأقدم من جهة وصاحبة بصمة صحفية مميزة من جهة ثانية ومن جهة ثالثة ترك جريدة مسائية على الأقل على الساحة لتميز زمن الإصدار اليومى المساء، وليس الصباح..

تعالوا نسأل بهدوء وعقلانية، أولا لن يتم تسريح الصحفيين والعاملين والاداريين.. يعنى سيتم توزيعهم على إصدارات أخرى في نفس المؤسسات أو عمل بوابات إليكترونية هي موجودة بالفعل لإستيعابهم إلى جانب العاملين فيها الآن.. يعنى إضافة طوابير من البطالة.. هل هذا هو الوفر الاقتصادى؟!

وعلى فكرة اقتراحات إنشاء بوابات الاليكترونية جديدة توحى أن شعب مصر كله الآن على النت، وإن عدم شراء الجرائد سببه تقدم التكنولوجيا، وهى بالمناسبة لم تؤثر كثيرا بهذا الشكل في اليابان معقل التكنولوجيا إذ توجد بها جريدتين توزيعهما اليومى أكثر من 80 مليون نسخة!   

لم يناقش أحد المحتوى الذى يقدم عندنا والسياسات التحريرية التي صرفت الناس عن هذه الأدوات الإعلامية إلى أدوات منافسة.. وعلى فكرة جمهور النت لا يقرأ البوابات والصحف أصلا، كل أخباره من عينة الاشاعات والفضائح وأخبار التيك واى !!

الخسائر مستمرة
لم يناقش أحد المعايير التي يتم بها إختيار وإستمرار قيادات ورؤساء هذه الصحف وأخواتها والقنوات التليفزيونية الرسمية.. الخ ، للأسف كلنا يعرف الأسباب وللأسف نعرف الحلول..  لكن نختار الحل الأسهل رغم أن الخسائر ستستمر ولن يتوقف نزيفها.. كيف؟

 لان أعدادا كبيرة من العاملين ستظل موجودة الآن ولا يمكن تسريحها لإعتبارات إجتماعية وسياسية، وقرارات الإغلاق تعنى إزدياد طوابر البطالة دون إستغلالها في تقديم خدمة صحفية جيدة !! وإذا وفرنا ثمن الورق والأحبار.. فماذا سنفعل بالمطابع الضخمة التي أنفق عليها المليارات؟ وماذا سنفعل بألآف العمال الذين يعملون في الأقسام الفنية المتعددة في هذه الصحف إذا أغلقنا الجرائد.. ألن  يتحول هؤلاء إلى بطالة تقبض مرتباتها ولا تعمل؟! فهل هذا معيار إقتصادى؟!

وإذا كانت مصر تتميز بقواها الناعمة فبماذا ستتميز بعد التفريط في هذه الأدوات الواحدة تلو الأخرى..  تخيلوا مصر بدون الصحف والسينما والمسرح والغناء والموسيقى والإبداع..  تخيلوا مصر بدون الأهرام وقد تحولت لمقار بنكية، والجمهورية وقد تحولت إلى فندق، والأخبار وقد تحولت إلى مول تجارى،  ودار الهلال العريقة إلى مجمع سكنى.. الخ ، لأن ثمن أراضيها ومواقعها بحساب المكسب والخسارة البحت أفضل في هذه الأنشطة عن هذه الجرائد؟!

ماذا سيتبقى لمصر؟  وبماذا ستتميز مصر بجوار بعض الدول الأخرى  وأى مبنى من هذه المباني أقدم من الكثير من دول الشرق الأوسط ؟!
هذه مقدمة لا بد لها، وقد كتبت الكثير من المقالات في هذا الشأن طوال السنوات الماضية.. 

كابوس المساءومن العام الذى أتابعه بوجع منذ سنوات وصرخت من ألمه ووجعه ولم يستمع أحد إلى الخاص الذى صحوت على كابوسه منذ ساعات وكنت أعرف بعض تفاصيله منذ فترة وكنت لا أصدقه تارة أو لا أتوقع حدوثه بهذه السرعة مراهنا على عنصر الزمن.. إعلان وفاة جريدة المساء الورقية.. أعرق جريدة مسائية في الشرق الأوسط ، وتحويل شكلها الورقى إلى إلكتروني..   

توجعت من  هذه الخبطة  التي ضربت عمق قلبى بهذا الخبر.. المساء صاحبة المذاق المختلف الذى تربينا عليه عن باقى الجرائد الصباحية.. كنا نشترى كقراء المساء مع آذان العشاء في البداية ثم المغرب ثم العصر ثم الظهر.. وكان لها فرحة تختلف عن مذاق شراء الجريدة الصباحية، كنا نبحث عنها ولا نجدها في المباريات الرياضية المهمة أو عند وقوع حادثة كبرى.

 شهادة ميلادى كانت هنا كصحفى يبدأ طريقه.. أول خطواتى الحقيقية كانت هنا.. الصالة الكبيرة في المبنى القديم بالدور الثالث في شارع زكريا أحمد كانت البيت الكبير.. كنت أسميها بيت العيلة.. كان الكل يجلس فيها ،المكاتب متلاصقة لا توجد جدران فاصلة.. كل شيء مشاع نتقاسمه جميعا.. ساندوتشات الفول والطعمية من  التابعى نتقاسمها.. وكوب الشاي قد نقتسمه أيضا.. والحساب عند عمى سيد ومحمد الحرامى كما كان  يحب ان نناديه.. وكله على النوتة أخرالشهر وخناقات الحساب والمغالطة فيه مع عمى سيد مع الجميع.. الضحكات والخناقات والمناوشات.. علانية يسمعها من في آخر الصالة.. 

أسرة كبيرة تختلط فيها كل المشاعر والأحاسيس والصراعات والمنافسات وحتى العواطف وقصص الحب التى تنتهى أحيانا بالزواج.. لا تنقطع الحياة في هذه الصالة لحظة واحدة طوال الأربع وعشرين ساعة بعكس أى جريدة أخرى في أى مكان.. تعلمت هنا البدايات في  فنون الصحافة لأول مرة بحق وحقيقى.. تدربت  على المواجهة والنقاشات الساخنة الصحفية.. تعلمت الإعتماد على النفس في الحصول على السبق الصحفى أو الكتابة الناقدة المعتمدة على الوثائق.. الكل هنا ومن أجيال مختلفة ينحت إسمه بقلمه وذراعه وموهبته.. 

شربنا من بئر الحيوية ونهلنا من نبع التميز لتنمو أقلامنا وتنضج عقولنا وتصقل مواهبنا وتتشبع الجينات بمفردات هذه الجامعة المهنية الأسرية..  تميزت الكروموسومات هنا بصفات صاحبة الجلالة الأصلية النقية وغير المهجنة وترسخت في خلايانا لتميزنا عن باقى أقراننا في الصحف الأخرى وظهر هذا جليا على صفحات جريدتنا أو عند مصادرنا أو في التجمعات الجماهيرية أو الصحفية.. من أول خبر بعد إلتحاقى بالعمل كان إسمى منشورا وهذا لا يحدث في الصحف الأخرى إلا بعد سنوات من العمل والتعب.

المساء كانت مصنعا للنجومية من أول لحظة تطأ قدمك على أعتابها.. تعطى المتميزين أضواء الشهرة ولا تبخل وهم على أولى سلالم بلاط  صاحبة الجلالة.. كان الكل هنا شابا ومن شاب شعره لم يشب قلبه أو عقله.. ولا أحد يخرج على المعاش فكيف يترك الأب أولاده ويرحل دون قرار إلهى؟!

 أحلى أيام عمرى في بدايات عملى الصحفى قبل إنتقالى للجمهورية كانت هنا.. لم يبخل علينا أحد بالخبرة ولم تبخل علينا الجريدة بالشهرة والذيوع التي كان يحصل عليها الزملاء في الصحف الأخرى بعد أن يشيب شعرهم.. المساء هي الميلاد ومن منا لا يحن لمسقط رأسه..  من منا لا يريد ان يدفن في مسقط رأسه مها شرق او  تغرب.. المساء هي أمى التي بقيت في رحمها وولدت في ردهاتها وترعرعت على صفحاتها حتى صرت يافعا.. هي البداية ولن تكتب لها نهاية أبدا.

أخيرا اعتقد أننى في كابوس سأصحو منه  فجأة لاجدني في أحضان محبوبتي.. المساء!
yourielsaid@yahoo.com
الجريدة الرسمية