رئيس التحرير
عصام كامل

رفقا بصغار السن

صعد المسن إلى عربة المترو، وهو متكئ على عصاه، وشاهدته فتاة جالسة كانت تتابع حركة النزول والصعود من الباب، فنهضت من مكانها كي تجلسه، لكنه رفض رفضا باتا أن تقوم هي، وأصر أن يقوم أحد الشباب الذي لم يكن منتبها إلى الموقف برمته من الأساس.


وبنبرة صوت عالية وصوت جهوري، خاطب المسن هذا الشاب: "قوم وقعدني أنا حقي أقعد مكانك"، وكان الشاب يجلس في المكان المخصص لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، وواصل الرجل صوته العالي: "أنت مش شايفني لما طلعت قوم أنت مش من حقك تقعد هنا"، فأعتذر الشاب بكل أدب ونهض من مكانه على الفور، قائلا: "سامحني يا حاج ماشفتش حضرتك والله".

أكمل المسن: "انت المفروض أصلا ماتقعدش هنا، الورقة اللي فوقك بتقول هذه المقاعد مخصصة لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة".

ويبدو أن الرجل كان مصرا على الإمعان في لوم الشاب وتوبيخه والحديث بصوت عال أمام الركاب عن الأخلاق التي انتهت، وقيم احترام كبار السن التي ولت وذهبت، وأمام ذلك كان الشاب صامتا تماما، وانزوى خجلا من نظراتهم في ركن بجوار الباب، إلى أن أقبلت محطته ونزل من المترو.

وما أن نزل حتى بدأت الأحاديث الجانبية بين الرجل وبعض الركاب بصوت مرتفع عن شجاعة الفتاة وتخاذل هذا الشاب، وأشار إلى شاب آخر كان نائما إلى جواره بالقول:" أهو عامل نايم ده كمان، والمفروض يقعد حد كبير بدل ما يقعد هو".

إحترام كبار السن
كان المسن يتحدث بصوته الجهوري داخل عربة المترو المزدحمة، وهو لا يرتدي كمامة طبية طبقا للإجراءات الاحترازية المطبقة داخل عربات المترو. واستيقظ الشاب الغارق في النوم، وبدا ذلك واضحا من ميل رأسه التام إلى اليسار، وبادره الرجل بالسؤال: "يابني انت مش شايف اللوحة المعلقة فوق؟"، "المفروض تقوم وتقعد حد كبير مكانك".

فبادره الشاب الغارق في عرقه ويبدو عليه التعب والإرهاق الشديد: "سامحني يا حاج انا والله كنت نايم ومش حاسس بحاجة حواليا"، واسترسل الشاب الذي يبدو أنه أراد أن يوفر على نفسه  نظرات اللوم من الركاب وكلمات التقريع من الرجل المسن: "معلش يا حاج أنا أصلي بشتغل أمن مصنع في حلوان، وبفضل طول النبطشية واقف على رجلي، ولما ركبت كان المترو فاضي فقعدت ومادريتش بنفسي، لأني بنزل في المرج الجديدة".

أبى الرجل إلا أن يجهز تماما على معنويات هذا الشاب المطحون، بالقول: "يابني الله يعينك بس لما تركب تاني وأنت عارف إنك هتنام ابقى اقعد في كرسي بعيد عن بتوع كبار السن، فهمتني يا بني ولا لا"، فأطرق الشاب رأسه في احترام ينم عن الرغبة في إنهاء هذا الجدل والحرج، قائلا: "فهمتك يا حاج معلش أنا آسف".

لا أهاجم مطلقا أهلنا تيجان الرؤوس كبارالسن، فهذا حقهم، احترامهم المطلق والقيام من أجلهم، ولكن حين فكرت فى أسلوب الرجل وجدته يتسم بالغلظة والقسوة، على شابين الأول بالفعل لم يره تماما، والثاني كان مرهقا متعبا من عمله ومشواره اليومي الطويل، وربما لو كان المسن صعد إلى العربة وطلب بنبرة صوت هادئة من الجميع: " يا أولادي مين يقدر يقوم ويقعدني؟" بدون مباشرة أحد وإحراجه أمام الركاب وهو لا يعلم ظروفه الصحية أو الحياتية، لتمكن من الحصول على مقعدين وثلاثة، لأن شهامة الشباب تفوق أحيانا شهامة من أرهقتهم متطلبات الحياة الطاحنة.

أذكر منذ سنوات موقفا وكتبت عنه تدوينة فى ذلك الحين، وقد كنت أركب المترو أيضا، وأحرجت إحدى السيدات، شابا يجلس، معيبة إياه أن يراها ولا يبادر بالقيام لها، وذلك عن طريق التورية، او ما يعرف شعبيا بـ"التلقيح"، وفجأة إذ بالشاب يشمر عن ساقه ثم يطرق عليها، قائلا: "سامحينى يا أمى مش بقدر اقف"، ليفاجأ الجميع بأنه يستخدم ساقا صناعية، فوضعت السيدة نفسها فى موقف لاتحسد عليه، ولو أنها طلبت من جميع من بالعربة بلا مباشرة أحد بالخطاب، لوجدت بدلا من الكرسي الواحد، خمسة.

حكاية حياة خلف كل قميص شبابي، ما بين شقاء وتعب فى سبيل لقمة العيش، أو مرض داخل الجسد لا تظهر علاماته، ليس شرطا أن يكون صغير السن مكتمل العافية، فالصحة ليست علامة مسجلة للشباب، وليس شرطا أن يكون كل من غطّ في سبات طويل بالمواصلات العامة، مدعيا.

نطلب الرفق من أهلنا كبار السن تجاه أولادهم فى المواصلات العامة، نعم يطلبون حقهم الإجتماعى، ولكن دون إيذاء أو تهجم أو استغلال عامل السن بالمزيد من اللوم والتقريع، تلطفوا بالشباب، فيكفي ما تصنع بهم الأيام، لتعطوا دائما القدوة الحسنة فى التروي كما تعلمنا منكم دائما، دمتم لنا نورا فوق الرؤوس، ودام الشباب عونا لكم على المشيب، رفقا بهم من فضلكم.
الجريدة الرسمية