رئيس التحرير
عصام كامل

حكم الإنفاق على الفقراء بدلا من الحج والعمرة في زمن الكورونا.. المفتي يجيب

موسم الحج 2021
موسم الحج 2021
وردَ سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه: "أمام ظروف انتشار وباء كورونا قامت السلطات السعودية بتأجيل العمرة، كما قامت بقصر الحج على حجاج الداخل من السعودية فقط؛ تحرزًا من انتشار عدوى الوباء، وأمام حزن الكثيرين ممن كانوا يحرصون على أداء العمرة بشكل مستمر في شهر رمضان أو غيره من مواسم الطاعات، وكذلك الحج تطوعًا في موسمه، خرجت دار الإفتاء المصرية بمبادرة عنوانها "كأنك اعتمرت": أكثر من ثواب العمرة، تدعو فيها من يريد الذهاب للعمرة إلى إنفاق الأموال المعدة لها، على الفقراء والمساكين والغارمين وأصحاب العمالة اليومية (الأرزقية) وكل من تضرروا بظروف الوباء؛ تفريجًا لكروبهم، وقضاءً لحوائجهم، وإصلاحًا لأحوالهم، فهل يكون ذلك مساويًا لثواب العمرة والحج تطوعًا فضلًا عن أن يكون زائدًا عليها؟


ومن جانبه أجاب الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية على هذا السؤال كالتالي: 

الحج والعمرة شعيرتان من شعائر الإسلام تشتملان على عبادات متعددة؛ منها البدنية: كالطواف والسعي والصلاة والصيام، والمالية: كالنفقة والفدية، والقولية: كالتلبية والذكر والدعاء؛ ولأجل ذلك جاءت الأحاديث النبوية الشريفة باستحباب المتابعة بين الحج والعمرة، غير أن هذه الأحاديث إنما تتناول استحباب التطوع بالحج والعمرة عند انتفاء المعارض كالوباء الذي تكون التجمعات مظنة لانتشاره، وعند عدم تزاحم الحقوق في أموال المكلفين، وإذا لم يكن تكرار الحج والعمرة متعارضًا مع كفاية الفقراء وإنعاش الاقتصاد، فأما إذا كان التجمع مظنة العدوى، أو تكاثرت الحقوق وتزاحمت واشتدت الحاجة إلى أموال الأغنياء لمواساة الفقراء ونجدة المحتاجين، وكانت نفقات الحج والعمرة باهظة التكاليف بحيث لو أُنفِقَت على الفقراء لقامت بكفايتهم وأصلحت أحوالهم، فإن أحب النفقة إلى الله تعالى حينئذ هو ما كان أنفع للناس وأجدى في صلاح أحوالهم وإنعاش اقتصادهم.

موسم الحج 2021
وعلى ذلك دلت الأحاديث النبوية الشريفة:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ -وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ- مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَها لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ» أخرجه الطبراني في معاجمه: "الكبير" و"الأوسط" و"الصغير".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل الأعمال إلى الله تعالى، فقال: «مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُورًا، إِمَّا أَنْ أَطْعَمَهُ مِنْ جُوعٍ، وَإِمَّا قَضَى عَنْهُ دَيْنًا، وَإِمَّا يُنَفِّسُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرَبَ الْآخِرَةِ، وَمَنْ أَنْظَرَ مُوسِرًا أَوْ تَجَاوَزَ عَنْ مُعْسِرٍ؛ ظَلَّهُ اللهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ لِتَثَبُّتِ حَاجَتِهِ ثَبَّتَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ، وَلَأَنْ يَمْشِيَ أَحَدُكُمْ مَعَ أَخِيهِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِي هَذَا شَهْرَيْنِ وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ» أخرجه الحاكم في "المستدرك".

كما أن هذا التفضيل الوارد عن بعض السلف ليس على إطلاقه، فهو يتناول الصدقة من حيث هي نفقةٌ يوجد مثلُها في الحج، ولا نظرَ فيها لحال المتصدَّق عليه، أمَّا مِن حيث كونُها عبادةً متعديةَ النفع فهي أفضل من حج التطوع وعمرته؛ لأنها قد تكون لكفاية محتاج أو لسد دين مدينٍ، وذلك بخلاف حج التطوع وعمرة التطوع؛ فنفعهما قاصر على صاحبهما.

وقد راعى الشرع الإسلامي ترتيب الأولويات؛ فأمر عند التعارض بتقديم المصلحة المتعدية على القاصرة، والعامة على الخاصة، والناجزة على المتوقعة، والمتيقنة على الموهومة.

وقد قرر الفقهاء في قواعد الفقه أن العبادة المتعدية أفضل من القاصرة، ومن نازع منهم في ذلك لم يختلف في أن التفاضل بين الطاعات إنما يكون على قدر المصالح الناشئة عنها:

قال العلامة السيوطي الشافعي في "الأشباه والنظائر" (ص: 144، ط. دار الكتب العلمية): [القاعدة العشرون: المتعدي أفضل من القاصر، ومن ثم قال الأستاذ أبو إسحاق، وإمام الحرمين وأبوه: للقائم بفرض الكفاية مزية على العين؛ لأنه أسقط الحرج عن الأمة. وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وأنكر الشيخ عز الدين هذا الإطلاق أيضًا.. ثم اختار -تبعًا للغزالي في "الإحياء"- أن أفضل الطاعات على قدر المصالح الناشئة عنها] اهـ.

وقد نص جماعةٌ من السلف الصالح على أن الصدقة أفضل من التطوع بالحج والعمرة؛ لأن الصدقة عبادة متعدية، أما الحج والعمرة تطوعًا فعبادتان قاصرتان على صاحبهما:

فروى أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" عن سيدنا الحسين بن علي عليهما السلام قال: "لَأَنْ أَقُوتَ أَهْلَ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ صَاعًا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ كُلَّ يَوْمٍ صَاعَيْنِ شَهْرًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ فِي إِثْرِ حَجَّةٍ".

فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِنَّ في المالِ لَحَقًّا سِوى الزَّكاةِ»، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]. رواه الترمذي وغيره من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وفيه ضعفٌ، إلا أنه قد صَحَّ مِن قول كثير من الصحابة الكرام والسلف الصالح من غير نكير؛ كأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، وأم المؤمنين عائشة، وأبي ذر، وأبي هريرة رضي الله عنهم، والحسن البصري وعطاء والشعبي ومجاهد وطاوس وإبراهيم النخعي رحمهم الله تعالى، ونقله الإمام النخعي عن السلف الصالح؛ فقال: "كانوا يرون في أموالهم حقًّا سوى الزكاة" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف".

وقد حفلت النصوص الشرعية بالتحذير من التغافل عن حاجات الفقراء وعدم السعي فيها، وجزاء من يبخل بماله عليهم:

فأخبر الله تعالى أن العقبة الكأداء إنما تُقتَحَم بالإطعام في المجاعات، وكفاية أصحاب الحاجات؛ فقال سبحانه: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۞ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۞ فَكُّ رَقَبَةٍ ۞ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۞ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۞ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ۞ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد: 11-17].

وأخبر سبحانه أن من أسباب دخول أهل النار فيها: عدمَ إطعام المسكين؛ فقال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۞ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ [المدثر: 42-44]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ۞ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الحاقة: 33-34].

وجعل سبحانه من الصفات السيئة: ترك إكرام اليتيم، وترك الحض على إطعام المسكين؛ فقال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۞ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الفجر: 17-18].

وأخبر أن من صفات المكذب بالدين: أنه يقهر اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين؛ فقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۞ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۞ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الماعون: 1-3].

وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق جاري عليَّ؟ قال: «إِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ شَيَّعْتَهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِنْ أَعْوَزَ سَتَرْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَلَا تَرْفَعْ بِنَاءَكَ فَوْقَ بِنَائِهِ فَتَسُدَّ عَلَيْهِ الرِّيحَ، وَلَا تُؤْذِهِ بِرِيحِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا» رواه الطبراني في "المعجم الكبير".

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، ما حق الجوار؟ قال: «إِن استَقْرَضَكَ أَقْرَضتَه، وَإِن استَعَانَكَ أعَنْتَه، وَإِن احْتَاجَ أَعْطيتَه، وَإِن مرض عُدْتَه» رواه الحافظ ابن حبان في كتاب "التوبيخ".

وعن أنس بن مالك رَضِي الله عَنْهُ قال: قال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وآله وسلم: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ» رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، والبزار في "مسنده".

قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب": إسناده حسن.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ طَاوٍ إِلَى جَانِبِهِ» أخرجه الإمام البخاري في "الأدب المفرد"، وابن أبي شيبة في "المصنف" وفي كتاب "الإيمان"، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.

وبوَّب الإمام البخاري في "الأدب المفرد" بابًا سمَّاه: "باب المواساة في السَّنَة والمجاعة"، وأخرج فيه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ضَحَايَاكُمْ، لَا يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»، فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: «كُلُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانُوا فِي جَهْدٍ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا».

وأخرج فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "يكون في آخر الزمان مجاعة، من أدركته فلا يعدلن بالأكباد الجائعة".

وأخرج فيه أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عام الرمادة -وكانت سنة شديدة ملمة، بعدما اجتهد عمر رضي الله عنه في إمداد الأعراب بالإبل والقمح والزيت من الأرياف كلها، حتى بلحت الأرياف كلها مما جهدها ذلك- فقام عمر رضي الله عنه يدعو فقال: "اللهم اجعل رزقهم على رؤوس الجبال"، فاستجاب الله له وللمسلمين، فقال حين نزل به الغيث: "الحمد لله، فوالله لو أن الله لم يفرجها ما تركتُ بأهل بيت من المسلمين لهم سعةٌ إلا أدخلتُ معهم أعدادَهم مِن الفقراء، فلم يكن اثنان يهلكان مِن الطعام على ما يقيم واحدًا".

وروى الإمام الطبراني في "المعجم الأوسط" عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ قَدْرَ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ، وَلَنْ يُجْهَدَ الْفُقَرَاءُ إِلَّا إِذَا جَاعُوا وَعروا مِمَّا يَصْنَعُ أَغْنِيَاؤُهُمْ، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِسَابًا شَدِيدًا، وَمُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا نُكْرًا».

وروى الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" عن محمد ابن الحنفية رضي الله عنهما: أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِي فُقَرَاءَهُمْ، فَإِنْ جَاعُوا وَعَرُوا جَهَدُوا فِي مَنْعِ الْأَغْنِيَاءِ، فَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ".

وروى ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" عن محمد ابن الحنفية رضي الله عنهما عن شيخ من قريش قال: بَيْنَا أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم جَالِسَانِ إِذْ وَقَفَ عَلَيْهِمَا أَعْرَابِيٌّ فَسَأَلَهُمَا، فَلَمْ يُعْطِيَاهُ شَيْئًا، وَقَالَا: اذْهَبْ إِلَى ذَيْنِكَ الْفَتَيَيْنِ، وَأَشَارَا إِلَى الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا وَهُمَا جَالِسَانِ، فَجَاءَ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمَا فَسَأَلَهُمَا، فَقَالَا: "إِنْ كُنْتَ تَسْأَلُ فِي دَمٍ مُوجِعٍ، أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ أَمْرٍ مُفْظِعٍ، فَقَدْ وَجَبَ حَقُّكَ".

وهذا ما نص عليه أرباب المذاهب الفقهية كلها:
فنص الحنفية على وجوب المواساة في الضرورة، وأن الصدقة لازمة في المال عند الحاجة إليها:

قال الإمام الجصاص الحنفي في "أحكام القرآن" (4/ 301، ط. دار إحياء
التراث العربي): [المفروض إخراجه هو الزكاة، إلا أن تحدث أمورٌ توجب المواساةَ والإعطاءَ؛ نحو الجائع المضطر، والعاري المضطر، أو ميت ليس له مَن يُكفِّنه أو يُواريه] اهـ.

وقال الإمام العيني الحنفي في "عمدة القاري" (8/ 237، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقد تأول سفيان بن عيينة في المواساة في المسغبة قولَه تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]، ومعناه: أن المؤمنين يلزمهم القربة في أموالهم لله تعالى عند توجه الحاجة إليهم، ولهذا قال كثير من العلماء: إن في المال حقًّا سوى الزكاة، وورد في الترمذي مرفوعًا] اهـ.

ونص المالكية على وجوب صرف المال إلى الحاجات عند نزولها، ونقلوا إجماع العلماء على ذلك، وأن للحاكم المسلم أن يفرض على الأغنياء ما يراه كافيًا لسد حاجات الدولة:

قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (1/ 88، ط. دار الكتب العلمية): [وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء. وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذا إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة فيها نظر، أصحها عندي وجوب ذلك عليهم] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 242، ط. دار الكتب المصرية): [واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضًا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله] اهـ.

وقال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (2/ 619، ط. دار ابن عفان): [إذا قرَّرنا إمامًا مُطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلًا- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال بيت المال] اهـ.

ونص الشافعية على أن الصدقات في حال الحاجات ولإزالة الفاقات هي من فروض الكفايات، وأن ذلك واجب في الأصح عندهم إلى تمام الكفاية لا إلى مجرد سد الرمق ودفع الضرورة؛ بما يشمل السكنى، والكسوة، والعلاج، وغير ذلك من أمور المعاش، وأن المواساةَ واجبة على كل من زاد مالُه على كفاية سنة، أو كان له من الوظائف ما يُدِرُّ عليه بانتظام ويزيد على كفايته، وأن التزام الأغنياء بكفاية الفقراء بمنزلة التزام الآباء بكفاية الأبناء.

قال إمام الحرمين الجويني الشافعي في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" (ص: 278، ط. مكتبة إمام الحرمين): [ولا أعرف خلافًا أن سدَّ خلّات المضطرين في شتى المجاعات، محتوم على الموسرين، ثم لا يرجعون عليهم إذا انسلُّوا مِن تحت كلاكل الفتن. وفقراء المسلمين بالإضافة إلى متوسليهم كالابن الفقير في حق أبيه؛ ليس للأب الموسر أن يلزم ابنه الاستقراض منه إلى أن يستغني يومًا من الدهر، ولو كان لولده مال غائب أقرض ولده أو استقرض له إن كان موليًا عليه.

والذي يكشف الغطاء فيه أن من رأى مسلمًا مشرفًا على حريق أو غريق، واحتاج إنقاذه إلى إنقاذ سببه، وإكداد حدبه لم يجد في مقابلة سعيه] اهـ.

وقال أيضًا في (ص: 359-360): [ومن عثر على بعض المضطرين وانتهى إلى ذي مخمصة من المسلمين، واستمكن من سد جوعته، وكفاية حاجته ولو تعداه، ووكله إلى من عداه، لأوشك أن يهلك في ضيعته، فيتعين على العاثر عليه القيام بكفايته] اهـ.

وقال أيضًا في "نهاية المطلب" (17/ 394، ط. دار المنهاج): [وما يتعلَّق بالأبدان -أي: من فروض الكفاية- سترُ العراة وإطعام الجائعين، وكفُّ الأذى عن المغبونين، وإغاثة المستغيثين، فكل ما ينتهي إلى الضرورة، ففرضٌ على الكافة القيام به.

ثم اختلف أرباب الأموال فيما فوق سدِّ الضرورة إلى تمام الكفاية التي يجب نفقته على من يلتزم النفقة؛ فقال قائلون: يتحتم الكفاية في ذلك حتى لا يبقى ذو حاجة. وقال آخرون: المفروض على الكفاية إزالة الضرورة. وما ذكرناه بعد تفريق الصدقات على المستحقين، وبعد أن يشغر بيتُ المال عن السهم المُرْصد للمصالح العامة، فإذ ذاك يثبت فرضُ الكفاية على أصحاب الثروة والمقدرة] اهـ.

وقال الإمام الرافعي في "فتح العزيز" (11/ 354، ط. دار الكتب العلمية): وفروض الكفايات أقسام.. منها: ما يتعلَّقُ بمصالح المعَاشِ وانتظام أمور الناس؛ كدفع الضرر عن المسلمين، وإِزالَةِ فاقتهم؛ كستر العارين، وإطْعَامِ الجائعين، وإِعَانَةِ المستَغِيثِين في النائبات، وكل ذلك فرضُ كفاية في حق أَصْحَاب الثروة والقُدرة إذا لم تفِ الصدقات الواجبة بِسَدِّ الحاجات ولم يكن في بيتِ المال مِنْ سَهْم المصالح ما يُصرف إليها.

فإذا انسدت الضرورةُ، فيكفي ذلك أم تَجِبُ الزيادَةُ إلى تمام الكفاية التي يقوم بها مَنْ تلزمه النفقَة؟ حَكَى الإمامُ فِيه وَجْهين لِأَصْحابِ الأصول] اهـ.

زاد الإمام النووي في "روضة الطالبين" (10/ 222، ط. المكتب الإسلامي): [قلت: قال الإمام في كتابه "الغياثي": يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة] اهـ.

وقال أيضًا في "منهاج الطالبين" (ص: 307، ط. دار الفكر): [ومن فروض الكفاية.. ودفع ضرر المسلمين؛ ككسوة عار، وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال] اهـ.

قال الإمام الإسنوي في "المهمات" (8/ 391، ط. دار ابن حزم): [تخصيصه بالمسلمين باطل؛ فإن أهل الذمة والمستأمنين يجب أيضًا دفع ضررهم بالستر والإطعام وغيرهما كما يجب للمسلم، وقد صرح الرافعي بالمسألة في باب الأطعمة في الكلام على المضطر] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في تعداد فروض الكفاية في "فتح الوهاب" (2/ 208، ط. دار الفكر): [(ودفع ضرر معصوم) من مسلم وغيره؛ ككسوة عار، وإطعام جائع، إذا لم يندفع ضررهما بنحو وصية ونذر ووقف وزكاة وبيت مال من سهم المصالح، وهذا في حق الأغنياء، وتعبيري بالمعصوم أولى من تعبيره بالمسلمين] اهـ.

قال العلامة سليمان الجمل الشافعي في حاشيته عليه "فتوحات الوهاب" (5/ 183، ط. دار الفكر):

[(قوله: ودفع ضرر معصوم) وهل المراد بدفع ضرر من ذكر ما يسد الرمق أم الكفاية؟ قولان؛ أصحهما: ثانيهما؛ فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناهما؛ كأجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع، كما هو واضح.

ولا ينافي ما تقرر قولُهم: لا يلزم المالكَ بذلُ طعامه لمضطر إلا ببدله؛ لحمل ذاك على غير غني تلزمه المواساة، ومما يندفع به ضرر المسلمين والذميين: فكُّ أسراهم على التفصيل الآتي في الهدنة، وعمارةُ نحو سور البلد وكفايةُ القائمين بحفظها؛ فمؤنة ذلك على بيت المال ثم على القادرين المذكورين، ولو تعذر استيعابهم خص به الوالي من شاء اهـ. "شرح م ر"، (وقوله: القائمين بحفظها): أي البلد، ومنه يؤخذ أن ما تأخذه الجند الآن من الجوامك يستحقونه ولو زائدًا على قدر الكفاية، حيث احتيج إليه في إظهار شوكتهم، ومن ذلك: ما تأخذه أمراؤهم من الخيول والمماليك التي لا يتم نظامهم أو شوكتهم إلا بها؛ لقيامهم بحفظ حوادث المسلمين اهـ. "ع ش" عليه.

(قوله: إذا لم يندفع ضررهما.. إلخ) منه يؤخذ أنه لو سئل قادر في دفع الضرر لم يجز له الامتناع وإن كان هناك قادرٌ آخر، وهو متجه؛ لئلا يؤدي إلى التواكل، بخلاف المفتي؛ له الامتناع إذا كان ثَمَّ غيرُه، ويفرق بأن النفس جُبِلَتْ على محبة العلم وإفادتِه؛ فالتواكل فيه بعيد جدًّا، بخلاف المال اهـ. "شرح م ر".

(قوله: وبيت مال) أي لعدم شيء فيه، أو لمنع مُتَوَلِّيهِ ولو ظلمًا اهـ. "شرح م ر".

(قوله: وهذا في حق الأغنياء) وهم: مَن عنده زيادة على كفاية سنة لهم وَلِمُمَوَّنِهِمْ؛ كما في "الروضة"، وإن نازع فيه البلقيني اهـ. "شرح م ر"، وينبغي أنه لا يُشترَط في الغنيِّ أن يكون عنده مالٌ يكفيه لنفسه وَلِمُمَوَّنِهِ جميعَ السنة، بل يكفي في وجوب المواساة أن يكون له نحوُ وظائفَ يتحصل منها ما يكفيه عادة جميعَ السنة، ويتحصل عنده زيادةٌ على ذلك ما تمكن المواساة به، وقوله كما في "الروضة" الذي اعتمده الشارح في الكفارة كفاية العمر الغالب والقياس مجيئه هنا اهـ. "ع ش" عليه] اهـ.

ونص الحنابلة على وجوب الإعطاء في النوائب، وأن الصدقة زمن المجاعة لا يعدِلُها شيء: قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (7/ 316، ط. مجمع الملك فهد): [ولهذا يقال: "ليس في المال حق سوى الزكاة"؛ أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال؛ كما تجب النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم، ويجب حمل العاقلة، ويجب قضاء الديون، ويجب الإعطاء في النائبة، ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري؛ فرضًا على الكفاية، إلى غير ذلك من الواجبات المالية] اهـ.

وقال أيضًا في "الفتاوى الكبرى" (5/ 382): [والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة. وأما إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته، فأما إذا كان كلاهما تطوعًا فالحج أفضل؛ لأنه عبادة بدنية مالية، وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك] اهـ.
وقد انتصر لذلك الإمام ابن حزم الظاهري واستدلَّ له أتم ما يكون الاستدلال؛ فقال في "المحلَّى" (4/ 281، ط. دار الفكر):

[وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم
السلطان على ذلك، إن لم تَقُم الزكواتُ بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيُقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر، والصيف والشمس، وعيون المارة.

وبرهان ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الإسراء: 26]، وقال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 36]، فأوجب تعالى حق المساكين، وابن السبيل، وما ملكت اليمين مع حق ذي القربى، وافترض الإحسان إلى الأبوين، وذي القربى، والمساكين، والجار، وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شك.

وقال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۞ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ [المدثر: 42-44]؛ فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة.


قال الإمام القفال الشاشي: [ولا شك في أن الصلاة أفضل من الصدقة، ثم قد يحدث حالٌ يُحتاج فيها إلى مواساةِ مضطرٍّ وإصلاح ذات بينٍ، فتكون الصدقة أفضلَ من الصلاة] اهـ نقله عنه الإمام الحليمي في "شعب الإيمان" (2/ 472، ط. دار الفكر).

وقال العلامة ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (1/ 163، ط. مطبعة السنة المحمدية): [وقد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والذي قيل في هذا أنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص، أو من هو في مثل حاله، أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي ترشد القرائن إلى أنها المراد. ومثال ذلك: أن يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ؟» -رواه أحمد- وفسره بذكر الله تعالى، على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم، أو من هو في صفاتهم، ولو خوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهل للنفع الأكبر في القتال لقيل له "الجهاد"، ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال ولا يتمحض حاله لصلاحية التبتل لذكر الله تعالى، وكان غنيًّا يُنتَفَعُ بصدقة ماله لقيل له "الصدقة"، وهكذا في بقية أحوال الناس، قد يكون الأفضل في حق هذا مخالفًا للأفضل في حق ذاك، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به] اهـ.

وقال العلامة السفاريني الحنبلي في "كشف اللثام" (1/ 542، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): [ومحصل ما أجاب به العلماء عن ما اختلفتْ فيه الأجوبةُ بأنه أفضلُ الأعمال بأن الجواب إنما اختلف لاختلاف السائلين؛ فأعلمَ كلَّ قومٍ بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبةٌ، أو بما هو لائقٌ بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات؛ بأن يكون العملُ في ذلك الوقت أفضلَ منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضلَ الأعمال.. وقد تظافرت النصوص على أن الصلاة أفضلُ من الصدقة، ومع ذلك، ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضلَ] اهـ.

والشرع الشريف لم يترك الترتيب بين العبادات والواجبات الحياتية والمجتمعية دون قواعد وضوابط؛ بل نظَّمها من خلال فقه الأولويات، وفقه المآلات، وفقه فروض الكفايات، وفقه الضرورات والحاجات، وفقه الموازنات، وقواعد تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة، والترتيب بين درجات الضرر بتقديم الضرر الأخف على الضرر الأعظم، وتقديم الحاصل من المصالح أو المفاسد على المحتمل أو المتوقع، وتقديم مصلحة المجموع على مصلحة الفرد، والمصلحة العامة والمتعدية على المصلحة الخاصة والقاصرة.

تكرار الحج
هذا بالإضافة إلى أن الحد من تكرار الحج يساهم في إعطاء الفرصة للحجاج الذين لم يسبق لهم أداء الفريضة؛ تقديمًا لحُجَّاج الفريضة على حُجَّاج النافلة؛ فيؤجر بذلك مَن تركوا تكرار الحج بإفساحهم المجال لإخوانهم الذين لم يحجوا، كي يؤدوا مناسكهم في يسر وأمن وطمأنينة.
وعدول المسلم عن تكرار الحج والعمرة تقديمًا لدفع فاقة الفقراء وإعطاء المحتاجين، أو بقصد إعطاء الفرصة لمن لم يحج أو يعتمر، لا يحرمه ثواب التطوع بالحج والعمرة، بل ينال بذلك الأجر من الله تعالى على كلا الأمرين؛ على صدقته للمحتاجين، وعلى نافلة الحج والعمرة التي منعه منها رعايةُ الفقراء أو إيثار من لم يؤد الفريضة. فروى الإمام البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا؛ مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة! قال: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؛ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ».

فيروس كورونا
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالمفتى به في هذه الآونة التي انتشر فيها وباء كورونا، وصارت التجمعات مظنة انتقال العدوى، وكثرت بالتالي الفاقات واشتدت الحاجات وضعف اقتصاد كثير من الدول: أن كفاية الفقراء والمحتاجين وعلاج المرضى وسد ديون الغارمين وغيرها من وجوه تفريج كرب الناس وسد حاجاتهم مقدَّمة على نافلة الحج والعمرة بلا خلاف، وأكثر ثوابًا منها، وأقرب قبولًا عند الله تعالى، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الوحيين، واتفق عليه علماء الأمة ومذاهبها المتبوعة، وأنه يجب على أغنياء المسلمين القيام بفرض كفاية دفع الفاقات عن أصحاب الحاجات، والاشتغال بذلك مقدَّم قطعًا على الاشتغال بنافلة الحج والعمرة، والقائم بفرض الكفاية أكثر ثوابًا من القائم بفرض العين؛ لأنه ساعٍ في رفع الإثم عن جميع الأمة، بل نص جماعة من الفقهاء على أنه إذا تعينت المواساةُ في حالة المجاعة وازدياد الحاجة على مريد حج الفريضة فإنه يجب عليه تقديمها على الحج؛ للاتفاق على وجوب المواساة حينئذٍ على الفور، بخلاف الحج الذي اختلف في كونه واجبًا على الفور أو التراخي.

ولا يجوز للواجدين إهمالُ المعوزين تحت مبرر الإكثار من النوافل والطاعات؛ فإنه لا يجوز ترك الواجبات لتحصيل المستحبات، ولا يسوغ التشاغل بالعبادات القاصرة ذات النفع الخاص وبذل الأوقات والأموال فيها على حساب القيام بالعبادات المتعدية ذات المصلحة العامة، وعلى مريد التطوع بالحج والعمرة السعيُ في بذل ماله في كفاية الفقراء وسد حاجات المساكين وقضاء ديون الغارمين قبل بذله في تطوع العبادات، كما أن تقديم سد حاجات المحتاجين وإعطاء المعوزين على التطوع بالحج أو العمرة ينيل فاعلها ثواب الأمرين معًا.
الجريدة الرسمية