د. أحمد عبد الرحمن يكتب: المرجفون وأبرهة الحبشي (2)
قال الحافظ ابن كثير، رحمه الله:
"وفي هذه السنة (سنة ثلاث وأربعين وستمائة) كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم الله، فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم ولم يتبعوهم، خوفا من غائلة مكرهم وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: (اتركوا الترك ما تركوكم)"، انتهى من "البداية والنهاية" (13 /196).
وهذا النهي عن تهييج الترك والأحباش، أو ابتدائهم بقتال، هو من كمال شفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم بأمته، تصديقا لقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) التوبة/ 128.
فحديث "اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة"، رواه أبو داود.
فقد تضمن السؤال نقطتين:
النقطة الأولى: حول درجة حديث: اتركوا الحبشة ما تركوكم.
وجواب ذلك:
أن الحديث حسن بمجموع طرقه، وبيان ذلك كما يلي:
الحديث رُوي عن أربعة من الصحابة، وهم: (عبد الله بن عمرو، أبي هريرة، عمرو بن عوف المزني، رجل من الصحابة لم يسم).
الطريق الأول: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
أخرجه أبو داود في "سننه" (4309)، وأحمد في "مسنده" (23155)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2912)، والبزار في "مسنده" (2355)، والحاكم في "المستدرك" (8396)، جميعا من طريق زهير بن محمد، عن موسى بنِ جُبير، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيفٍ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم – قال: اتركوا الحبشةَ ما تركوكم، فإنه لا يستخرِجُ كَنزَ الكعبةِ إلاَّ ذو السُّوَيْقَتَينِ من الحبشة.
وفي بعض الطرق، قال: "عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: سمعت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".. فلم يسم الصحابي.
والحديث إسناده ضعيف، لجهالة حال موسى بن جبير.
فقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (10882)، وقال: "يخطئ ويخالف"، ووثقه الذهبي في "الكاشف" (5687)، وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/257): "حال موسى بن جبير لا تعرف". انتهى، وقال الزركشي في "التذكرة في الأحاديث المشتهرة" (ص205)، وابن حجر في "تقريب التهذيب" (6954): "مستور". انتهى.
وأما زهير بن محمد التميمي: فهو صدوق؛ إلا أن في رواية الشاميين عنه نكارة، ورواية العراقيين عنه صحيحة، نصّ على ذلك الإمام البخاري رحمه الله.
قال الترمذي في "العلل الكبير" (ص395): "قَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَادِيثُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، مُقَارِبَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، وَلَكِنِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَأَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَأَهْلُ الشَّامِ: يَرْووُنَ عَنْهُ مَنَاكِيرَ". انتهى.
ونصّ الإمام أحمد على أن رواية عبد الرحمن بن مهدي وأبي عامر العقدي عن زهير بن محمد مستقيمة، نقله المزي في "تهذيب الكمال" (9/417).
وهذا الطريق رواه عن زهير عبد الرحمن بن مهدي كما في "مسند الإمام أحمد" (23155)، وأبو عامر العقدي كما في "سنن أبي داود" (4309)، وكلاهما من أهل البصرة.
الطريق الثاني: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
أخرجه أبو داود في "سننه" (4302)، والنسائي في "سننه" (3276)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (18597)، من طريق أَبِي زُرْعَةَ السَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي سُكَيْنَةَ، رَجُلٍ مِنَ الْمُحَرَّرِينَ، عَنْ رَجُلٍ، مَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دعوا الحَبَشة ما وَدَعُوكم، واتركوا التُّرك ما تَركوكم.
وإسناده ضعيف أيضا ، لجهالة حال أبي سكينة.
قال فيه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (2/348): "أبو سكينة: اسمه زياد بن مالك، ولم أسمع فيه بتجريح ولا بتعديل". انتهى، وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/93): "شيخ مستور، ما وثق ولا ضعف، فهو جائز الحديث، روى عنه جعفر بن برقان، وأبو بكر بن أبي مريم، تفرد بحديث: دعوا الحبشة ما ودعوكم". انتهى
الطريق الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (764)، من طريق ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ ، فَإِنَّهُ لا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ.
وإسناده ضعيف، لإبهام الواسطة بين ابن جريج، وصالح بن أبي صالح.
والحديث حسن بمجموع هذه الطرق الثلاث، حيث إن علة الضعف في الطريق الأول : هي جهالة حال موسى بن جبير، وهو من طبقة أتباع التابعين، وعلة الضعف في الطريق الثاني هي جهالة حال أبي سكينة، وهو من طبقة كبار التابعين.
ومعلوم أن مجهول الحال، في طبقة التابعين: لا يرد حديثه إلا إذا كان فيه نكارة أو خولف، فإن توبع، كما هو الحال هنا فالحديث يكون حسنا إن شاء الله.
قال الإمام الذهبي في "ديوان الضعفاء" (ص478): "وأما المجهولون من الرواة: فإن كان الرجل من كبار التابعين، أو أوساطهم: احتمل حديثه، وتلقي بحسن الظن، إذا سلم من مخالفة الأصول، وركاكة الألفاظ.
وإن كان الرجل منهم، من صغار التابعين: فيُتأنى في رواية خبره، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحريه، وعدم ذلك.
وإن كان المجهول من أتباع التابعين، فمن بعدهم: فهو أضعف لخبره سيما إذا انفرد". انتهى.
ولأجل ذلك: فإن الحديث حسنه الشيخ الألباني بطرقه، كما في "السلسلة الصحيحة" (722).
قلت: لا عبرة بتحسين الألبانى، وقد خالفه كبار المحدثين، كما سبق بيانه.