رئيس التحرير
عصام كامل

المصري الشامخ بين عبور السفينة والعبور العظيم

في ملحمة السفينة العملاقة "إيفرجيفن" التي كانت جانحة في قناة السويس مشهد بسيط جدا؛ لكنه يعبر بالفعل عن إرادة وقوة مصر والمصريين، وهذا المشهد هو وجود كراكة صغيرة تعمل على التكريك وسحب الرمال في مقدمة تلك السفينة العملاقة، وكان هذا المشهد سببا في سخرية كبيرة خاصة من جماعة الإرهاب وقنواتها العميلة، حيث انصبت السخرية على تلك المعدة الصغيرة جدا بالنسبة لحجم السفينة، والتي لا يمكن أن تفعل شيئا من وجهة نظر هؤلاء العملاء ومن شايعهم من الخونة والإرهابيين والجهلاء في العالم أجمع.


وتساءل بعض الخبثاء: هل يعقل أن كل الحكومات والأنظمة التي توالت على مصر لم تفكر باحتمال جنوح سفينة فيها وتجهيز معدات أساسية لهذا الاحتمال وتدريب فرق إنقاذ؟ ولم يعرف هؤلاء معدن وصلابة الشعب المصري الذي يستغل أقل الإمكانيات ليصل ويحقق أعظم النتائج، ولم يدرسوا تاريخ الشعب المصري مع التحديات، وسوف أشير فقط إلى تحد لم يكن بعيدا.

العبور العظيم


وهو تحدي حرب السادس من أكتوبر 1973 حين كان التحدي هو كيفية عبور خط بارليف الحصين الذي تميز بساتر ترابي ذو ارتفاع كبير -من 20 إلى 22 مترا- وانحدار بزاوية 45 درجة على الجانب المواجه للقناة، كما تميز بوجود 20 نقطة حصينة تسمى "دشم" على مسافات تتراوح من 10 إلى 12 كم وفي كل نقطة حوالي 15 جندي تنحصر مسئوليتهم في الإبلاغ عن أي محاولة لعبور القناة وتوجيه المدفعية إلى مكان القوات التي تحاول العبور.

كما كانت عليه مصاطب ثابتة للدبابات، بحيث تكون لها نقاط ثابتة للقصف في حالة استدعائها في حالات الطوارئ، كما كان في قاعدته أنابيب تصب في قناة السويس لإشعال سطح القناة بالنابالم في حالة محاولة القوات المصرية العبور، والتي قامت القوات المصرية الخاصة بسدها تمهيدا للعبور في واحدة من أعظم العمليات.

وروجت إسرائيل طويلا لهذا الخط على أنه مستحيل العبور وأنه يستطيع إبادة الجيش المصري إذا ما حاول عبور قناة السويس، كما أدعت أنه أقوى من خط ماجينو الذي بناه الفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى.

وقد صدق العالم ما روجته إسرائيل وراح يسخر من مصر والمصريين، ومن رداءة السلاح المصري وتخلفه بجانب السلاح الإسرائيلي المتطور الخ، فماذا فعل المصري وقتها؟ وكيف عبر قناة السويس واجتاح خط بارليف؟ هل هبطت عليه الأسلحة المتطورة والمعدات الحديثة فتمكن من العبور؟ كلا إنه المصري يا سادة، المؤيد بنصر من الله والذي يستغل أقل الإمكانيات.

أسطورة باقي زكي

حيث فكر الضابط المهندس وقتها باقي زكي يوسف في فكرة بسيطة جدا حطمت أسطورة خط بارليف، فهو صاحب فكرة استخدام المياه في فتح الساتر الترابي تمهيدا لعبور القوات المصرية إلى سيناء، هذه الفكرة رغم بساطتها أنقذت 20 ألف جندي مصري على الأقل من الموت المحقق. وتمكن الجيش المصري في يوم السادس من أكتوبر عام 1973 م من عبور قناة السويس واجتياح خط بارليف، وإزالة 3 ملايين متر مكعب من التراب عن طريق استخدام مضخات مياه ذات ضغط عال، قامت بشرائها وزارة الزراعة للتمويه السياسي ومن ثم تم الاستيلاء على أغلب نقاطه الحصينة بخسائر محدودة ومن ال 441 عسكري إسرائيلي قتل 126 وأسر 161 ولم تصمد إلا نقطة واحدة هي نقطة بودابست في أقصى الشمال في مواجهة بورسعيد.

وبعد أن كان العالم يسخر من مصر في أعقاب نكسة 1967 - ومن تلك السخرية ما فعله رئيس تحرير مجلة دير شبيجل الألمانية الغربية الذي أرسل خطابا إلى السيدة جولدا مائير رئيس وزراء إسرائيل قال فيه بكل انبهار: "إنني يا سيدتي أشعر بالأسف الشديد لأنني أصدرت ملحق المجلة الخاص بالانتصار الإسرائيلى باللغة الألمانية، إنني سأفرض على المحررين في دور الصحف التي أملكها أن يتعلموا العبرية.. لغة جيش الدفاع الذي لا يقهر" 

تغيرت نظرت العالم لمصر والمصريين فبعد أيام من حرب أكتوبر تقول دير شبيجل الألمانية الغربية: (إن اجتياح المصريين خط بارليف، جعل الأمة العربية بكاملها تنفض عن نفسها آثار المهانة التي تحملت آلامها منذ 1967). وبعد العبور العظيم وقف قادة إسرائيل في ذهول بعد أن دمر هذا الخط الدفاعي خلال ساعات وتبرأ موشى ديان منه: "إن هذا الخط كان كقطعة الجبن الهشة".

إرادة مصرية

وها هي الأيام تعود والحوادث تحدث ثانية بطريقة أخرى فقد تمكنت المعدة الصغيرة ومعها الكثير من المعدات مثلها وبفكر مصري خالص من تحرير السفينة من جنوحها في أيام قليلة، بعد ان كانت التقديرات كلها تشير لأسابيع عديدة حتى تتمكن مصر من تحرير السفينة الجانحة ويكون ذلك بمساعدة الدول الغربية وأمريكا، لكن الإرادة والعزيمة المصرية أثبتت للعالم أنها قادرة على فعل المعجزات في أيام قليلة، وبإمكانيات قد تبدو أقل مما لدى الغير لكنها بالتأكيد فعالة وقوية..

وها هي مصر تنقذ نفسها والعالم من خسائر مالية واقتصادية باهظة، بعضها يصعب حسابها لارتباطها بتأخر طلبيات، أو متعلقة بصعود أسعار النفط. وكانت خسائر القناة يوميا على شكل إيرادات ورسوم عبور، تبلغ يوميا بين 12-14 مليون دولار أمريكي، بحسب حركة الملاحة البحرية عبر القناة، ومن المعروف أنه يمر نحو 15% من حركة الشحن العالمية في قناة السويس.

وقد سجلت شركات نقل عالمية خسائر باهظة بعد رسو أكثر من 350 سفينة على جانبي القناة شمالا وجنوبا، بسبب تعطيل حركتها وتأخير وصولها إلى محطاتها النهائية. وقالت وسائل إعلام دولية إن خسائر أخرى مرتبطة بتلف عديد السلع على متن بعض السفن العالقة في قناة السويس، وبعض هذه السفن، محملة بمواد غذائية و"مواشي" كانت باتجاه أسواق عربية كالأردن وأوروبية.

وتكبدت دول مستهلكة للنفط خسائر، بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام . ويكلف تعطل الملاحة عبر قناة السويس التجارة العالمية قرابة 400 مليون دولار في الساعة ما يعادل نحو 6.66 مليون دولار في الدقيقة، ومع تعطل الملاحة ارتفع سعر شحن الحاوية الواحدة من الصين إلى أوروبا إلى 8 آلاف دولار، ما يساوي 4 أضعاف السعر الذي كان العام الماضي.
الجريدة الرسمية