هل تمنع الشريعة الإسلامية تولي المرأة المناصب القيادية؟... مفتي الجمهورية يرد
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه "هل تجيز الشريعة الإسلامية تولي المرأة للمناصب القيادية؟"، ومن جانبه أجاب الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية على هذا السؤال كالتالي:
إن من أهم ما يميز الشريعة الإسلامية الغراء أنها ساوت بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة وفي القيمة الإنسانية؛ حيث خلقهما الله تعالى من أصل واحد وطينة واحدة، من غير فرق بينهما في الأصل والفطرة، فلا فضل لأحدهما على الآخر بسبب عنصره الإنساني وخلقه الأول، فالناس جميعًا ينحدرون من أب واحد وأم واحدة؛ مصداقُ ذلك قول الله تعالى: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [فاطر: 11]؛ وقوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء:1].
وعن مساواة المرأة للرجل في أصل الخلقة والإنسانية، وتحمُّل التكاليف الشرعية؛ يشير العلامة الشيخ محيي الدين بن العربي في "الفتوحات المكية" (3/ 87-89، ط. دار الكتب العربية الكبرى) فيقول: [اعلم أيدك الله، أن الإنسانية لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة؛ لم يكن للرجال على النساء درجة من حيث الإنسانية.. وقد شرَّك الله بين الرجال والنساء في التكليف، فكلف النساء كما كلف الرجال.. ولو لم يَرِد إلا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» لكان فيه غُنية؛ أي: كل ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات، يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء، كما كان لمن شاء الله من الرجال] اهـ.
أخرج الإمام الترمذي في "سننه" عَنْ عَائِشَةَ أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»؛ قال العلامة علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (2/ 428، ط. دار الفكر):
[أي: نظائرهم في الخلق والطبائع، كأنهن شُقِقْنَ منهم، ولأن حواء شُقَّتْ من آدم، وشَقِيق الرجل أخوه من أبيه وأمه؛ لأنه شُقَّ نسَبُه من نسَبِه.
قال الخطابي: في الحديث من الفقه إلحاق النظير بالنظير، وأن الخِطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابًا للنساء، إلا في مواضع مخصوصة] اهـ.
وأكد هذا المعنى العلامة زين الدين المناوي؛ فقال في "فيض القدير" (3/ 333، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [النساء شقائق الرجال، كما هو مطرد في جُل الأحكام؛ حيث يدخُلْنَ مع الرجال تبعًا، إلا ما خَصَّه الدليل] اهـ.
وتأسيسًا على ذلك؛ يُعلم أن الأصل في الإسلام المساواة بين المرأة والرجل، إلا في حالات مخصوصة محددة تُلتَمس في مظانها، استدعتها حِكَمٌ بالغة، ومصالح مُحققة.
حكم الشرع في عمل المرأة
وقد ورد في الشريعة الإسلامية جملة من الشواهد والأدلة تشير إلى رجاحة ووفور عقل المرأة لا سيما في الأمور الجسام والقضايا المصيرية؛ فمن ذلك المشورة الحكيمة لأم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله تعالى عنها في صلح الحديبية، والتي نفع الله عز وجل بها الأمة الإسلامية ممثَّلة في رعيلها الأول من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛حيث أنجاهم من حدَثٍ جَللٍ وأمر عصيب وذلك عندما التبَسَ الأمرُ عليهم، فتوقفوا عن النحر والحلق حين أمرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فأشارت عليه السيدة أم سلمة رضي الله تعالى عنها؛ كما جاء في "إرشاد الساري" (4/ 443، ط. المطبعة الكبرى الأميرية)
: "فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ الله اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا".
وقد أشار إلى هذا العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (8/ 124، ط. مكتبة الرشد)؛ فقال: [شاورَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمَّ سلمة؛ فأراه الله بركةَ المشورةِ، ففعل ما قالت؛ فاقتدى به أصحابه.. ففي هذا من الفقه أن الفعل أقوى من القول؛ وفيه: جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأي] اهـ. ومما يشهد ويدل على رجاحة عقلها وحكمة مشورتها إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمشورتها والعمل بها.
وفي هذا المعنى يقول الإمام بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 5، ط. دار إحياء التراث العربي): [عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابةُ ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به] اهـ.
وأكد هذا المعنى ابنُ الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (17/ 143، ط. دار النوادر)؛ فقال: [شاور الشارعُ أمَّ سلمة، فأراه الله بركة المشورة ففعل ما قالت، فاقتدى به أصحابه.. وفيه: جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأي] اهـ.
واستدل الإمام القسطلاني بذلك على رجاحة عقلها، فقال في "إرشاد الساري" (4/ 443): [وفيه فضيلة أم سلمة ووفور عقلها] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين الكرماني في "الكواكب الدراري" (12/ 50، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفيه جواز مشاورة النساء، وقبول قولهن إذا كنَّ مصيبات] اهـ.
حكم تولي المرأة للمناصب القيادية
من هنا يرى العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي أن المرأة قد تتعدَّى مرحلةَ المساواة مع الرجل إلى مرحلة التفوُّق والتميُّز عليه؛ فيقول في "الخواطر" (4/ 2178-2180، ط. مطابع أخبار اليوم): [ولعل المرأة تشير برأي قد يعزُّ على كثير من الرجال، ولنا المَثَل من زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وموقفها في صلح الحديبية] اهـ.
وأكد على هذا المعنى العلامة الشيخ محيي الدين بن العربي في "الفتوحات المكية" (1/ 679، ط. دار الكتب العربية الكبرى)؛ فقال: [وقد تبلغ المرأة في الكمال درجة الرجال، وقد ينزل الرجل في النقص إلى ما هو أقل من درجة النقص الذي للمرأة] اهـ.
وتدور دلالة لفظ الولاية في معهود كلام العرب على معنيين: النُّصْرةِ، والإمارَةِ؛ قال العلامة اللغوي مرتضى الزَّبيدي في "تاج العروس" (40/ 242-243، ط. دار الهداية):
[ووَلِيَ الشَّيءَ، ووُلِّيَ عَلَيْهِ وِلايَةً ووَلايَةً، بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح، أَي بالفَتْح، للمَصْدَرِ، وبالكَسْرِ للاسْمِ مِثْلُ الإمارَةِ والنِّقابَةِ؛ لأنَّه اسْمٌ لمَا تَوَلَّيْتَه وقُمْتَ بِهِ، فَإِذا أَرادُوا المَصْدَرَ فَتَحُوا؛ هَذَا نَصُّ سِيْبَوَيْه. وقيلَ: الوِلايَةُ، بالكَسْرِ: الخُطَّةُ والإمارَةُ. وقَالَ ابنُ السِّكِّيت: الوِلايَةُ، بالكسْرِ: السُّلْطانُ.
قَالَ ابنُ برِّي: وقُرِئ قولُه تعالَى: ﴿مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم﴾، بالفَتْح وبالكَسْرِ، بمعْنَى النُّصْرةِ؛ وَكَانَ الكِسائي يَفْتحُها ويَذْهَبُ بهَا إِلَى النُّصْرةِ. وَقَالَ الزجَّاج: يقرأُ بالوَجْهَيْن، فمَنْ فَتَح جَعَلَها من النُّصْرةِ وَالسَّبَب، قالَ: والوِلايَةُ الَّتِي بمنْزلَةِ الإمارَةِ مَكْسُورَة ليفصلَ بَين المَعْنَيَيْن] اهـ.
والولاية بمعنى الإمارة عرَّفها العلَّامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 548، ط. دار الفكر)؛ فقال: [استحقاق تصرف عام على الأنام؛ أي على الخلق.. وعرَّفها في المقاصد بأنها: رياسة عامة في الدين والدنيا خلافةً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
آراء الفقهاء حول عمل المرأة
وتجدر الإشارة إلى أن مسألة تولي المرأة للولايات العامة من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء؛ حيث تباينت آراؤهم فيها، فذهب فريق منهم إلى جواز ذلك، وذهب فريق آخر إلى عدم جوازه؛ فأما الذين قرروا عدم الجواز فقد احتجُّوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» أخرجه البخاري في "صحيحه"؛ أشار إلى ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (13/ 56، ط. دار المعرفة)؛ فقال: [قال ابن التين: احتج بحديث أبي بكرة مَن قال: لا يجوز أن تُولَّى المرأةُ القضاءَ] اهـ.
قال العلامة الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 575، ط. دار الحديث): [فيه دليل على عدم جواز تولية المرأة شيئًا من الأحكام العامة بين المسلمين، وإن كان الشارع قد أثبت لها أنها راعية في بيت زوجها] اهـ.
وقال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (24/ 204، ط. دار إحياء التراث العربي): [واحتج به مَن منع قضاء المرأة، وهو قول الجمهور] اهـ.
وقال الإمام القسطلاني في "إرشاد الساري" (10/ 192-193، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [ومذهب الجمهور أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء] اهـ.
أما الذين أجازوا تولي المرأة للولايات العامة والقضاء؛ فقد أشار إليهم العلامة ابن قدامة في "المغني" (9/ 39، ط. مكتبة القاهرة)؛ فقال: [قال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز أن تلي النساء القضاء فيما يجوز أن تُقبل شهادتهن فيه وحدهن أو مع الرجال؛ لأن في الشهادة معنى الولاية، ولا يجوز في الحدود والقصاص لأن شهادتهن لا تُقبل في ذلك. وحكي عن ابن جرير الطبري أنه أجاز تقلد المرأة القضاء مطلقًا، وعلل جواز ولايتها بجواز فتياها؛ وقد ذهب بعض الشافعية إلى أنه لو وَلَّى سلطان ذو شوكة امرأةً القضاءَ نفذ قضاؤها] اهـ.
كما أشار إليهم العلامة ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (21/ 610، ط. دار النوادر)؛ فقال: [وجوَّز ابن جرير أن تكون حاكمًا؛ وحكاه ابن خويز منداد عن مالك، وقال أبو حنيفة: تكون حاكمًا في كل أمر تجوز فيه شهادة النساء] اهـ.
وذكرهم أيضًا المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (6/ 447، ط. دار الكتب العلمية)؛ فقال: [وأجازه الطبري وهي رواية عن مالك وعن أبي حنيفة عما تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء] اهـ.
وذهب الإمام ابن حزم إلى القول بالجواز، وساق وجه دلالاته على ذلك -كما ناقش أدلةَ المنع-؛ جاء ذلك في "المحلى بالآثار" (8/ 527-528، ط. دار الفكر)؛ حيث قال:
[وَجَائِزٌ أَنْ تَلِيَ الْمَرْأَةُ الْحُكْمَ -وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ وَلَّى الشِّفَاءَ -امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ- السُّوقَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ». قُلْنَا: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ الْخِلَافَةُ؛ بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا».
وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيُّونَ أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً وَوَكِيلَةً، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ مَنْعِهَا أَنْ تَلِيَ بَعْضَ الْأُمُورِ، وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ] اهـ.
ولقد ذخرت الشريعة الغراء بجملة من الأدلة والشواهد تشير إلى تولي المرأة لمناصب رفيعة في ديار الإسلام؛ ومن ثمَّ يترجح بها مذهب مَن قال بالجواز؛ مِن ذلك ما أخرجه ابن أبي عاصم الشيباني في "الآحاد والمثاني" (6/ 4، ط. دار الراية) عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: "أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ الشِّفَاءَ عَلَى السُّوقِ".
قال ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (32/ 377، ط. دار النوادر): [وَوَلَّى عمرُ الشِّفَاءَ أُمَّ سليمانَ خاتمةً بالسوقِ] اهـ.
وعن الشفاء وفضلها ورجاحة عقلها يقول العلامة الزرقاني في "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" (1/ 470، ط. مكتبة الثقافة الدينية):
[الشِّفاء: بنت عبد الله بن عبد شمس بن خلف القرشية العدوية، أم سليمان؛ قيل: اسمها ليلى، والشِّفاء لقب، أسلمت قبل الهجرة وبايعت، وهي من المهاجرات الأُوَل، وكانت من عقلاء النساء وفُضلائهن، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يزورها في بيتها.. وكان عمر يقدِّمها في الرأي ويرعاها ويفضِّلها؛ وربما ولَّاها شيئًا من أمر السوق] اهـ.
وما أخرجه الإمام الطبراني في "المعجم الكبير" عَنْ أَبِي بَلْجٍ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: "رَأَيْتُ سَمْرَاءَ بِنْتَ نَهِيكٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَدْرَكَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ؛ عَلَيْهَا دِرْعٌ غَلِيظٌ، وَخِمَارٌ غَلِيظٌ، بِيَدِهَا سَوْطٌ تُؤَدِّبُ النَّاسَ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ".
ومن ذلك أيضًا ما أشار إليه العلامة ابن الجوزي في "المنتظم" (13/ 178-181، ط. دار الكتب العلمية)، فقال: [ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة.. وفى هذه السنة قعدت ثمل القهرمانة في أيام المقتدر للمظالم، وحضر مجلسها القضاة والفقهاء] اهـ.
وفي ضوء ما سبق، وتأسيسًا عليه؛ فلا يصح الاستدلال على عدم جواز تولي المرأة المناصب العامة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»؛ لأن هذا الحديث الشريف ورد على سبب مخصوص، وهو ما يُعرف في اصطلاح علماء الأصول بواقعة العين؛ وهي الحادثة أو النازلة المختصة بمُعَيَّن، والأصل في واقعة العين أنها تختص بالشخص المُعَيَّن الذى وقعت لأجله، فلا تعمُّ في حكمِها غيرَه
وكما تقرر في علم الأصول أن: "وقائع الأعيان لا عموم لها"؛ ومن ثمَّ فإن هذا الحديث الشريف واقعة عين، لا يستدل بها على غيرها أصلًا.
ومما يُستدل به على أن هذا الحديث الشريف واقعة عين لا عمومَ لها: أنه ورد على سبب خاص في سباق وسياق ولحاق معين، لا يستقيم في بداهة العقل حملُه على وجه العموم، وقد تعرَّض لسبب وروده الخاص العلامة ابن الجوزي في "كشف المشكل" (2/ 16، ط. دار الوطن)؛
فقال: [سبب قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا: أنه لما قَتَل شيرويه أباه كسرى، لم يملك سوى ثمانية أشهر، ويُقال ستة أشهر، ثم هلك، فملك بعده ابنه أردشير، وكان له سبع سنين فقُتِل، فملكت بعده بوران بنت كسرى، فبلغ هذا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»؛ وكذلك كان، فإنهم لم يستقم لهم أمر] اهـ.
وأما عن السباقات التي تعلقت بالحديث: فتتمثل في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رُسُله برسائل إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الله عز وجل ومنهم كسرى ملك الفرس؛ قال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (18/ 58-59، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي سنة ستٍّ بعثَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدَ اللهِ بنَ حذافة إلى كسرى ملك الفرس. قال الواقدي: كان ذلك في آخر سنة ستٍّ بعد عمرة الحديبية.. وقيل: في المحرم في سنة ست] اهـ.
ويأتي سياق الحديث ليشير إلى سوء أدب كسرى مع كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما أورده العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 210، ط. دار إحياء التراث العربي)، فقال: [إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزَّقه.. فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمزَّقوا كلَّ مُمَزَّق] اهـ.
وقد أصابت دعوةُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كسرى وقومَه، ودعاؤه لا شك في إجابته؛ قال العلامة ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (18/ 32، ط. دار النوادر): [ولما دعا عليهم صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؛ مات منهم أربعة عشر ملكًا في سنة] اهـ.
وعن لحاقات الحديث الممثَّلة في الآثار المترتبة على دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (18/ 58-59، ط. دار إحياء التراث العربي): [فدعا على كسرى وجنوده بأن يُمَزَّقوا كلَّ مُمَزَّق؛ بحيث لا يبقى منهم أحد، وهكذا جرى ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة ولا أمر نافذ، وأدبر عنهم الإقبال حتى انقرضوا بالكلية في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه] اهـ.
ومما يؤيد هذا المعنى ويدل على أن الحديث الشريف يمثل واقعة عين لا عموم لها: أن دلالة لفظ الفلاح الوارد في الحديث الشريف تشير إلى معنى البقاء والفوز، وهو المعنى الذي يناسب سباقات وسياقات ولحاقات الحديث؛ يوضح ذلك ما ذهب إليه العلامة اللغوي ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (4/ 450، ط. دار الفكر)؛ حيث قال: [الْفَاءُ وَاللَّامُ وَالْحَاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى شَقٍّ، وَالْآخَرُ عَلَى فَوْزٍ وَبَقَاءٍ.. وَالْأَصْلُ الثَّانِي الْفَلَاحُ: الْبَقَاءُ وَالْفَوْزُ] اهـ.
وعن الصلة الوثيقة بين سبب ورود الحديث الشريف ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كسرى ومُلْكِه: يقول الإمام القسطلاني في "إرشاد الساري" (10/ 192-193): [والغرض من ذكر هذا الحديث هنا بيان أن كسرى لما مزَّق كتابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ودعا عليه؛ سلَّط الله عليه ابنَه فمَزَّقَه وقتَلَه، ثم قتَلَ إخوتَه؛ حتى أفضى الأمر بهم إلى تأمير المرأة؛ فجرَّ ذلك إلى ذهاب ملكهم ومُزِّقوا، واستجاب الله دعاءَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ] اهـ.
كما أكد على هذا المعنى وتلك الصلة: شمس الدين الكرماني في "الكواكب الدراري" (16/ 232، ط. دار إحياء التراث العربي)؛ فقال: [هو مِن تَتمة قصة كتاب كسرى حين مزَّقه، وقتله ابنُه، ثم مات الابن بالسم الذي دسه أبوه له، ثم جعل البنت ملكة] اهـ.
وقال أيضًا في "الكواكب الدراري" (24/ 173، ط. دار إحياء التراث العربي): [وابنة كسرى اسمها بوران.. وكان مدة ملكها سنة وستة أشهر] اهـ.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا علِم بولاية المرأة؛ أخبر أن هذا علامةُ ذهاب ملكهم وتمزُّقه، إجابةً لدعوته عليهم؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]؛ ومن ثمَّ فلا يُعَد ذلك إخبارًا عامًّا منه صلى الله عليه وآله وسلم بأن كل قوم يُوَلُّون امرأةً عليهم أنهم لا يُفلحون.
ومما يُستأنس به في هذا الصدد ويُستدلُّ به على جواز تولي المرأة المناصبَ العامة: ما أخرجه الإمام ابن حبان في "صحيحه" عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعَيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
قال الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (13/ 113، ط. دار المعرفة): [قال الخطابي: اشتركوا أي الإمام والرجل ومن ذُكِرَ في التسمية؛ أي في الوصف بالراعي.. ولا يلزم من الاتصاف بكونه راعيًا، ألَّا يكون مرعيًّا باعتبار آخر] اهـ.
وعن معنى عموم الإمامة لجميع الخلق، وأن حكمها واحد، وأنه يعم الناس جميعًا: يقول العلامة الشيخ محيي الدين بن العربي في "الفتوحات المكية" (3/ 476، ط. دار الكتب العربية الكبرى): [قال:«كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»؛ فعمَّت الإمامة جميع الخلق، فحصل لكل شخص منهم مرتبة الإمامة، فله من الحق هذا القدر، ويتصرف بقدر ما مَلَّكه الله من التصرُّف فيه] اهـ.
وفي السياق نفسه يقول في "الفتوحات المكية" (4/ 5): [فأعلى الرعاء الإمامة الكبرى، وأدناها إمامة الإنسان على جوارحه، وما بينهما ممن له الإمامة على أهله وولده وتلامذته ومماليكه.. ولهذا عمَّت الإمامة جميع الأناسي، والحكم في الكل واحد من حيثما هو إمام] اهـ.
وقد ورد في الهدي النبوي الشريف ما يدلُّ ويؤكد على أن أي مسلم أو مسلمة يمكن له أن يتحمَّل مسؤوليتهم، ويصح أن يسعى في أمورهم؛ فقد أخرج الإمام أبو داود في "سننه" عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ؛ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ».
قال الشيخ المباركفوري في "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (9/ 510، ط. إدارة البحوث والإفتاء، بنارس الهند): [والمعنى: أن ذمة المسلمين واحدة سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أَمَّنَ أحد من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمَّة؛ لم يكن لأحدٍ نقضُه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة، والحُر والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة.. فأما المرأة: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة] اهـ.
وكيف لا تتحمل المرأة مسؤولية الولاية وقد تقرَّر في الشريعة الغراء أن المرأة المسلمة إذا أعطت أمانًا لجيش العدو بأكمله وجب على جميع المسلمين أن يُمضُوه، وألَّا ينقضوا عليها عهدها؛ قال الإمام بدر الدين العيني في "نخب الأفكار" (15/ 344، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية): [إذا أعطَى أحدٌ الجيشَ العدوَّ أمانًا، صار ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يُخفِروه، ولا أن يَنقضُوا عليه عهدَه، وقد أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على جميع الجيش] اهـ.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن تولي المرأة للمناصب القيادية أمرٌ جائز شرعًا، والشريعة الإسلامية لم تنظر إلى النوع، إنما اعتبرت الكفاءة والقدرة على إنجاز الأمور على أتم وجه، وفي مواقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يحض على الثقة بالمرأة وإعطائها من الحقوق والقيادة ما تكون مؤهلة له.
إن من أهم ما يميز الشريعة الإسلامية الغراء أنها ساوت بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة وفي القيمة الإنسانية؛ حيث خلقهما الله تعالى من أصل واحد وطينة واحدة، من غير فرق بينهما في الأصل والفطرة، فلا فضل لأحدهما على الآخر بسبب عنصره الإنساني وخلقه الأول، فالناس جميعًا ينحدرون من أب واحد وأم واحدة؛ مصداقُ ذلك قول الله تعالى: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [فاطر: 11]؛ وقوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء:1].
وعن مساواة المرأة للرجل في أصل الخلقة والإنسانية، وتحمُّل التكاليف الشرعية؛ يشير العلامة الشيخ محيي الدين بن العربي في "الفتوحات المكية" (3/ 87-89، ط. دار الكتب العربية الكبرى) فيقول: [اعلم أيدك الله، أن الإنسانية لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة؛ لم يكن للرجال على النساء درجة من حيث الإنسانية.. وقد شرَّك الله بين الرجال والنساء في التكليف، فكلف النساء كما كلف الرجال.. ولو لم يَرِد إلا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» لكان فيه غُنية؛ أي: كل ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات، يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء، كما كان لمن شاء الله من الرجال] اهـ.
أخرج الإمام الترمذي في "سننه" عَنْ عَائِشَةَ أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»؛ قال العلامة علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (2/ 428، ط. دار الفكر):
[أي: نظائرهم في الخلق والطبائع، كأنهن شُقِقْنَ منهم، ولأن حواء شُقَّتْ من آدم، وشَقِيق الرجل أخوه من أبيه وأمه؛ لأنه شُقَّ نسَبُه من نسَبِه.
قال الخطابي: في الحديث من الفقه إلحاق النظير بالنظير، وأن الخِطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابًا للنساء، إلا في مواضع مخصوصة] اهـ.
وأكد هذا المعنى العلامة زين الدين المناوي؛ فقال في "فيض القدير" (3/ 333، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [النساء شقائق الرجال، كما هو مطرد في جُل الأحكام؛ حيث يدخُلْنَ مع الرجال تبعًا، إلا ما خَصَّه الدليل] اهـ.
وتأسيسًا على ذلك؛ يُعلم أن الأصل في الإسلام المساواة بين المرأة والرجل، إلا في حالات مخصوصة محددة تُلتَمس في مظانها، استدعتها حِكَمٌ بالغة، ومصالح مُحققة.
حكم الشرع في عمل المرأة
وقد ورد في الشريعة الإسلامية جملة من الشواهد والأدلة تشير إلى رجاحة ووفور عقل المرأة لا سيما في الأمور الجسام والقضايا المصيرية؛ فمن ذلك المشورة الحكيمة لأم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله تعالى عنها في صلح الحديبية، والتي نفع الله عز وجل بها الأمة الإسلامية ممثَّلة في رعيلها الأول من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛حيث أنجاهم من حدَثٍ جَللٍ وأمر عصيب وذلك عندما التبَسَ الأمرُ عليهم، فتوقفوا عن النحر والحلق حين أمرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فأشارت عليه السيدة أم سلمة رضي الله تعالى عنها؛ كما جاء في "إرشاد الساري" (4/ 443، ط. المطبعة الكبرى الأميرية)
: "فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ الله اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا".
وقد أشار إلى هذا العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (8/ 124، ط. مكتبة الرشد)؛ فقال: [شاورَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمَّ سلمة؛ فأراه الله بركةَ المشورةِ، ففعل ما قالت؛ فاقتدى به أصحابه.. ففي هذا من الفقه أن الفعل أقوى من القول؛ وفيه: جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأي] اهـ. ومما يشهد ويدل على رجاحة عقلها وحكمة مشورتها إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمشورتها والعمل بها.
وفي هذا المعنى يقول الإمام بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 5، ط. دار إحياء التراث العربي): [عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابةُ ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به] اهـ.
وأكد هذا المعنى ابنُ الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (17/ 143، ط. دار النوادر)؛ فقال: [شاور الشارعُ أمَّ سلمة، فأراه الله بركة المشورة ففعل ما قالت، فاقتدى به أصحابه.. وفيه: جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأي] اهـ.
واستدل الإمام القسطلاني بذلك على رجاحة عقلها، فقال في "إرشاد الساري" (4/ 443): [وفيه فضيلة أم سلمة ووفور عقلها] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين الكرماني في "الكواكب الدراري" (12/ 50، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفيه جواز مشاورة النساء، وقبول قولهن إذا كنَّ مصيبات] اهـ.
حكم تولي المرأة للمناصب القيادية
من هنا يرى العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي أن المرأة قد تتعدَّى مرحلةَ المساواة مع الرجل إلى مرحلة التفوُّق والتميُّز عليه؛ فيقول في "الخواطر" (4/ 2178-2180، ط. مطابع أخبار اليوم): [ولعل المرأة تشير برأي قد يعزُّ على كثير من الرجال، ولنا المَثَل من زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وموقفها في صلح الحديبية] اهـ.
وأكد على هذا المعنى العلامة الشيخ محيي الدين بن العربي في "الفتوحات المكية" (1/ 679، ط. دار الكتب العربية الكبرى)؛ فقال: [وقد تبلغ المرأة في الكمال درجة الرجال، وقد ينزل الرجل في النقص إلى ما هو أقل من درجة النقص الذي للمرأة] اهـ.
وتدور دلالة لفظ الولاية في معهود كلام العرب على معنيين: النُّصْرةِ، والإمارَةِ؛ قال العلامة اللغوي مرتضى الزَّبيدي في "تاج العروس" (40/ 242-243، ط. دار الهداية):
[ووَلِيَ الشَّيءَ، ووُلِّيَ عَلَيْهِ وِلايَةً ووَلايَةً، بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح، أَي بالفَتْح، للمَصْدَرِ، وبالكَسْرِ للاسْمِ مِثْلُ الإمارَةِ والنِّقابَةِ؛ لأنَّه اسْمٌ لمَا تَوَلَّيْتَه وقُمْتَ بِهِ، فَإِذا أَرادُوا المَصْدَرَ فَتَحُوا؛ هَذَا نَصُّ سِيْبَوَيْه. وقيلَ: الوِلايَةُ، بالكَسْرِ: الخُطَّةُ والإمارَةُ. وقَالَ ابنُ السِّكِّيت: الوِلايَةُ، بالكسْرِ: السُّلْطانُ.
قَالَ ابنُ برِّي: وقُرِئ قولُه تعالَى: ﴿مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم﴾، بالفَتْح وبالكَسْرِ، بمعْنَى النُّصْرةِ؛ وَكَانَ الكِسائي يَفْتحُها ويَذْهَبُ بهَا إِلَى النُّصْرةِ. وَقَالَ الزجَّاج: يقرأُ بالوَجْهَيْن، فمَنْ فَتَح جَعَلَها من النُّصْرةِ وَالسَّبَب، قالَ: والوِلايَةُ الَّتِي بمنْزلَةِ الإمارَةِ مَكْسُورَة ليفصلَ بَين المَعْنَيَيْن] اهـ.
والولاية بمعنى الإمارة عرَّفها العلَّامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 548، ط. دار الفكر)؛ فقال: [استحقاق تصرف عام على الأنام؛ أي على الخلق.. وعرَّفها في المقاصد بأنها: رياسة عامة في الدين والدنيا خلافةً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
آراء الفقهاء حول عمل المرأة
وتجدر الإشارة إلى أن مسألة تولي المرأة للولايات العامة من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء؛ حيث تباينت آراؤهم فيها، فذهب فريق منهم إلى جواز ذلك، وذهب فريق آخر إلى عدم جوازه؛ فأما الذين قرروا عدم الجواز فقد احتجُّوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» أخرجه البخاري في "صحيحه"؛ أشار إلى ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (13/ 56، ط. دار المعرفة)؛ فقال: [قال ابن التين: احتج بحديث أبي بكرة مَن قال: لا يجوز أن تُولَّى المرأةُ القضاءَ] اهـ.
قال العلامة الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 575، ط. دار الحديث): [فيه دليل على عدم جواز تولية المرأة شيئًا من الأحكام العامة بين المسلمين، وإن كان الشارع قد أثبت لها أنها راعية في بيت زوجها] اهـ.
وقال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (24/ 204، ط. دار إحياء التراث العربي): [واحتج به مَن منع قضاء المرأة، وهو قول الجمهور] اهـ.
وقال الإمام القسطلاني في "إرشاد الساري" (10/ 192-193، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [ومذهب الجمهور أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء] اهـ.
أما الذين أجازوا تولي المرأة للولايات العامة والقضاء؛ فقد أشار إليهم العلامة ابن قدامة في "المغني" (9/ 39، ط. مكتبة القاهرة)؛ فقال: [قال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز أن تلي النساء القضاء فيما يجوز أن تُقبل شهادتهن فيه وحدهن أو مع الرجال؛ لأن في الشهادة معنى الولاية، ولا يجوز في الحدود والقصاص لأن شهادتهن لا تُقبل في ذلك. وحكي عن ابن جرير الطبري أنه أجاز تقلد المرأة القضاء مطلقًا، وعلل جواز ولايتها بجواز فتياها؛ وقد ذهب بعض الشافعية إلى أنه لو وَلَّى سلطان ذو شوكة امرأةً القضاءَ نفذ قضاؤها] اهـ.
كما أشار إليهم العلامة ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (21/ 610، ط. دار النوادر)؛ فقال: [وجوَّز ابن جرير أن تكون حاكمًا؛ وحكاه ابن خويز منداد عن مالك، وقال أبو حنيفة: تكون حاكمًا في كل أمر تجوز فيه شهادة النساء] اهـ.
وذكرهم أيضًا المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (6/ 447، ط. دار الكتب العلمية)؛ فقال: [وأجازه الطبري وهي رواية عن مالك وعن أبي حنيفة عما تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء] اهـ.
وذهب الإمام ابن حزم إلى القول بالجواز، وساق وجه دلالاته على ذلك -كما ناقش أدلةَ المنع-؛ جاء ذلك في "المحلى بالآثار" (8/ 527-528، ط. دار الفكر)؛ حيث قال:
[وَجَائِزٌ أَنْ تَلِيَ الْمَرْأَةُ الْحُكْمَ -وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ وَلَّى الشِّفَاءَ -امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ- السُّوقَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ». قُلْنَا: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ الْخِلَافَةُ؛ بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا».
وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيُّونَ أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً وَوَكِيلَةً، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ مَنْعِهَا أَنْ تَلِيَ بَعْضَ الْأُمُورِ، وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ] اهـ.
ولقد ذخرت الشريعة الغراء بجملة من الأدلة والشواهد تشير إلى تولي المرأة لمناصب رفيعة في ديار الإسلام؛ ومن ثمَّ يترجح بها مذهب مَن قال بالجواز؛ مِن ذلك ما أخرجه ابن أبي عاصم الشيباني في "الآحاد والمثاني" (6/ 4، ط. دار الراية) عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: "أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ الشِّفَاءَ عَلَى السُّوقِ".
قال ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (32/ 377، ط. دار النوادر): [وَوَلَّى عمرُ الشِّفَاءَ أُمَّ سليمانَ خاتمةً بالسوقِ] اهـ.
وعن الشفاء وفضلها ورجاحة عقلها يقول العلامة الزرقاني في "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" (1/ 470، ط. مكتبة الثقافة الدينية):
[الشِّفاء: بنت عبد الله بن عبد شمس بن خلف القرشية العدوية، أم سليمان؛ قيل: اسمها ليلى، والشِّفاء لقب، أسلمت قبل الهجرة وبايعت، وهي من المهاجرات الأُوَل، وكانت من عقلاء النساء وفُضلائهن، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يزورها في بيتها.. وكان عمر يقدِّمها في الرأي ويرعاها ويفضِّلها؛ وربما ولَّاها شيئًا من أمر السوق] اهـ.
وما أخرجه الإمام الطبراني في "المعجم الكبير" عَنْ أَبِي بَلْجٍ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: "رَأَيْتُ سَمْرَاءَ بِنْتَ نَهِيكٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَدْرَكَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ؛ عَلَيْهَا دِرْعٌ غَلِيظٌ، وَخِمَارٌ غَلِيظٌ، بِيَدِهَا سَوْطٌ تُؤَدِّبُ النَّاسَ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ".
ومن ذلك أيضًا ما أشار إليه العلامة ابن الجوزي في "المنتظم" (13/ 178-181، ط. دار الكتب العلمية)، فقال: [ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة.. وفى هذه السنة قعدت ثمل القهرمانة في أيام المقتدر للمظالم، وحضر مجلسها القضاة والفقهاء] اهـ.
وفي ضوء ما سبق، وتأسيسًا عليه؛ فلا يصح الاستدلال على عدم جواز تولي المرأة المناصب العامة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»؛ لأن هذا الحديث الشريف ورد على سبب مخصوص، وهو ما يُعرف في اصطلاح علماء الأصول بواقعة العين؛ وهي الحادثة أو النازلة المختصة بمُعَيَّن، والأصل في واقعة العين أنها تختص بالشخص المُعَيَّن الذى وقعت لأجله، فلا تعمُّ في حكمِها غيرَه
وكما تقرر في علم الأصول أن: "وقائع الأعيان لا عموم لها"؛ ومن ثمَّ فإن هذا الحديث الشريف واقعة عين، لا يستدل بها على غيرها أصلًا.
ومما يُستدل به على أن هذا الحديث الشريف واقعة عين لا عمومَ لها: أنه ورد على سبب خاص في سباق وسياق ولحاق معين، لا يستقيم في بداهة العقل حملُه على وجه العموم، وقد تعرَّض لسبب وروده الخاص العلامة ابن الجوزي في "كشف المشكل" (2/ 16، ط. دار الوطن)؛
فقال: [سبب قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا: أنه لما قَتَل شيرويه أباه كسرى، لم يملك سوى ثمانية أشهر، ويُقال ستة أشهر، ثم هلك، فملك بعده ابنه أردشير، وكان له سبع سنين فقُتِل، فملكت بعده بوران بنت كسرى، فبلغ هذا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»؛ وكذلك كان، فإنهم لم يستقم لهم أمر] اهـ.
وأما عن السباقات التي تعلقت بالحديث: فتتمثل في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رُسُله برسائل إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الله عز وجل ومنهم كسرى ملك الفرس؛ قال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (18/ 58-59، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي سنة ستٍّ بعثَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدَ اللهِ بنَ حذافة إلى كسرى ملك الفرس. قال الواقدي: كان ذلك في آخر سنة ستٍّ بعد عمرة الحديبية.. وقيل: في المحرم في سنة ست] اهـ.
ويأتي سياق الحديث ليشير إلى سوء أدب كسرى مع كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما أورده العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 210، ط. دار إحياء التراث العربي)، فقال: [إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزَّقه.. فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمزَّقوا كلَّ مُمَزَّق] اهـ.
وقد أصابت دعوةُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كسرى وقومَه، ودعاؤه لا شك في إجابته؛ قال العلامة ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (18/ 32، ط. دار النوادر): [ولما دعا عليهم صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؛ مات منهم أربعة عشر ملكًا في سنة] اهـ.
وعن لحاقات الحديث الممثَّلة في الآثار المترتبة على دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (18/ 58-59، ط. دار إحياء التراث العربي): [فدعا على كسرى وجنوده بأن يُمَزَّقوا كلَّ مُمَزَّق؛ بحيث لا يبقى منهم أحد، وهكذا جرى ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة ولا أمر نافذ، وأدبر عنهم الإقبال حتى انقرضوا بالكلية في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه] اهـ.
ومما يؤيد هذا المعنى ويدل على أن الحديث الشريف يمثل واقعة عين لا عموم لها: أن دلالة لفظ الفلاح الوارد في الحديث الشريف تشير إلى معنى البقاء والفوز، وهو المعنى الذي يناسب سباقات وسياقات ولحاقات الحديث؛ يوضح ذلك ما ذهب إليه العلامة اللغوي ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (4/ 450، ط. دار الفكر)؛ حيث قال: [الْفَاءُ وَاللَّامُ وَالْحَاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى شَقٍّ، وَالْآخَرُ عَلَى فَوْزٍ وَبَقَاءٍ.. وَالْأَصْلُ الثَّانِي الْفَلَاحُ: الْبَقَاءُ وَالْفَوْزُ] اهـ.
وعن الصلة الوثيقة بين سبب ورود الحديث الشريف ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كسرى ومُلْكِه: يقول الإمام القسطلاني في "إرشاد الساري" (10/ 192-193): [والغرض من ذكر هذا الحديث هنا بيان أن كسرى لما مزَّق كتابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ودعا عليه؛ سلَّط الله عليه ابنَه فمَزَّقَه وقتَلَه، ثم قتَلَ إخوتَه؛ حتى أفضى الأمر بهم إلى تأمير المرأة؛ فجرَّ ذلك إلى ذهاب ملكهم ومُزِّقوا، واستجاب الله دعاءَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ] اهـ.
كما أكد على هذا المعنى وتلك الصلة: شمس الدين الكرماني في "الكواكب الدراري" (16/ 232، ط. دار إحياء التراث العربي)؛ فقال: [هو مِن تَتمة قصة كتاب كسرى حين مزَّقه، وقتله ابنُه، ثم مات الابن بالسم الذي دسه أبوه له، ثم جعل البنت ملكة] اهـ.
وقال أيضًا في "الكواكب الدراري" (24/ 173، ط. دار إحياء التراث العربي): [وابنة كسرى اسمها بوران.. وكان مدة ملكها سنة وستة أشهر] اهـ.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا علِم بولاية المرأة؛ أخبر أن هذا علامةُ ذهاب ملكهم وتمزُّقه، إجابةً لدعوته عليهم؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]؛ ومن ثمَّ فلا يُعَد ذلك إخبارًا عامًّا منه صلى الله عليه وآله وسلم بأن كل قوم يُوَلُّون امرأةً عليهم أنهم لا يُفلحون.
ومما يُستأنس به في هذا الصدد ويُستدلُّ به على جواز تولي المرأة المناصبَ العامة: ما أخرجه الإمام ابن حبان في "صحيحه" عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعَيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
قال الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (13/ 113، ط. دار المعرفة): [قال الخطابي: اشتركوا أي الإمام والرجل ومن ذُكِرَ في التسمية؛ أي في الوصف بالراعي.. ولا يلزم من الاتصاف بكونه راعيًا، ألَّا يكون مرعيًّا باعتبار آخر] اهـ.
وعن معنى عموم الإمامة لجميع الخلق، وأن حكمها واحد، وأنه يعم الناس جميعًا: يقول العلامة الشيخ محيي الدين بن العربي في "الفتوحات المكية" (3/ 476، ط. دار الكتب العربية الكبرى): [قال:«كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»؛ فعمَّت الإمامة جميع الخلق، فحصل لكل شخص منهم مرتبة الإمامة، فله من الحق هذا القدر، ويتصرف بقدر ما مَلَّكه الله من التصرُّف فيه] اهـ.
وفي السياق نفسه يقول في "الفتوحات المكية" (4/ 5): [فأعلى الرعاء الإمامة الكبرى، وأدناها إمامة الإنسان على جوارحه، وما بينهما ممن له الإمامة على أهله وولده وتلامذته ومماليكه.. ولهذا عمَّت الإمامة جميع الأناسي، والحكم في الكل واحد من حيثما هو إمام] اهـ.
وقد ورد في الهدي النبوي الشريف ما يدلُّ ويؤكد على أن أي مسلم أو مسلمة يمكن له أن يتحمَّل مسؤوليتهم، ويصح أن يسعى في أمورهم؛ فقد أخرج الإمام أبو داود في "سننه" عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ؛ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ».
قال الشيخ المباركفوري في "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (9/ 510، ط. إدارة البحوث والإفتاء، بنارس الهند): [والمعنى: أن ذمة المسلمين واحدة سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أَمَّنَ أحد من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمَّة؛ لم يكن لأحدٍ نقضُه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة، والحُر والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة.. فأما المرأة: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة] اهـ.
وكيف لا تتحمل المرأة مسؤولية الولاية وقد تقرَّر في الشريعة الغراء أن المرأة المسلمة إذا أعطت أمانًا لجيش العدو بأكمله وجب على جميع المسلمين أن يُمضُوه، وألَّا ينقضوا عليها عهدها؛ قال الإمام بدر الدين العيني في "نخب الأفكار" (15/ 344، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية): [إذا أعطَى أحدٌ الجيشَ العدوَّ أمانًا، صار ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يُخفِروه، ولا أن يَنقضُوا عليه عهدَه، وقد أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على جميع الجيش] اهـ.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن تولي المرأة للمناصب القيادية أمرٌ جائز شرعًا، والشريعة الإسلامية لم تنظر إلى النوع، إنما اعتبرت الكفاءة والقدرة على إنجاز الأمور على أتم وجه، وفي مواقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يحض على الثقة بالمرأة وإعطائها من الحقوق والقيادة ما تكون مؤهلة له.