في ذكرى ميلاده الـ 103.. زنازين الزعيم.. "عيسى" افتتح ندوة البطانية و"فؤاد" أسس مجلة والشيوعيون بنوا مسجدًا
في الخامس عشر من يناير كل عام.. تحل ذكرى ميلاد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر. ورغم الرحيل الذي أتم نصف قرن من الزمان..لا يزال ناصر خالدًا في ذاكرة المصريين، بعضهم يراه عظيم المجد، فيستجلب له الرحمات، وبعضهم يراه عظيم الخطايا فيستنزل عليه اللعنات، كل حزب بما لديهم فرحون وقانعون ومقتنعون.
فى منتصف الشهر الجارى.. حلت الذكرى الثالثة بعد المائة لعبد الناصر، الذي امتلك مقومات الزعامة، وسمات الرؤساء الكبار المؤثرين. لا شك.. أن الضجيج الذي كان يرافق ذكرى مولد ووفاة ناصر آخذٌ في التراجع بوتيرة متسارعة؛ فالناصريون الحقيقيون إما قد رحلوا أو شاخوا وبلغوا من العمر عتيًا، كما أن من يعتبرون أنفسهم ورثة عبد الناصر انسحبوا من المشهد وآووا إلى مكان سحيق، فلا تكاد تسمع لهم همسًا.
ورغم هذه الإشكاليات المتناقضة والمتصادمة..يبقى "ناصر" حالة خاصة شديدة التعقيد، ولا تزال فترة حكمة في بعض جوانبها شديدة الإلهام والتأثير، كما لا تزال كنزًا لم يتم فك شفراته بالكامل، ولا تزال هناك أسرار قابلة للتفتيش والسرد والحكى والتقييم..
"السجن جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلى وحيويته المتنوعة ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة وفيه أيضا قررت أن أكون كاتبا".
كلمات استهل بها الكاتب والأديب صنع الله إبراهيم فصله الثانى من كتاب «يوميات الواحات» المستوحاة من سنوات قضاها ورفاقه من قيادات الحركة الشيوعية داخل معتقل الواحات أو المحاريق، ذاقوا فيها صنوف التعذيب والتنكيل، إلا أنه من رحم القمع تفجرت ينابيع الإبداع والفن، وكيف تحولت تلك البقعة الصحراوية الشديدة القيظ، إلى ساحة المبارزة الفكرية، تنبض فيها الروح ويمنحها أصحابها الحياة.
أغلب معتقلى الواحات يشيرون في كتاباتهم إلى قسوة ما عانوه في معتقل المحاريق، رغم أن ما حدث في سجن أبو زعبل هو الأقسى من ناحية التعذيب الممنهج، فإن تجربة سجن الواحات فيها مرارة الوحشة في الصحراء والإحساس بأن الدنيا قد تخلت عنك ونسيتك، في منطقة صحراوية قاحلة تبعد عن القاهرة بنحو 1000 كيلو متر.
يوجد مبنى من الطوب اللبن مسقوف بالخشب ومقسم إلى عدة حجرات واسعة هي ثلاثة عنابر يقسم كل عنبر إلى جناحين كبيرين بكل جناح 10 زنازين وحمام واحد به ثلاث غرف لقضاء الحاجة، والسجن محاط بسور متهالك من الخارج.
ضم الشيوعيين بمختلف تنظيماتهم، وكذلك الإخوان المسلمين المتهمين بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في حادث المنشية بالإسكندرية عام 1954، وعددا قليلا من السجناء الجنائيين.
إبداع من رحم المعاناة
من رحم الأزمات يولد الإبداع، استهدف عبد الناصر بعد عام 1954، المعارضين المثقفين ممن لهم قدرة على التأثير على الرأي العام أو محطهم، فكان أغلبهم ما بين محام وصحفي ورسام وكاتب وشاعر، وهو ما نتج عنه المكتبة المصرية الثرية من أدب السجون الذي دونها كل من ذاق ويلات السجون وقسوة الاحتجاز.
فبعد فترة التشديد الأولى على المعتقلين، بدأت الأمور تتخفف رويدا رويدا، ساهم في ذلك، وجود السجن في منطقة منعزلة وسط الصحراء كان السجانون أنفسهم في حكم السجناء، لهذا نشأت حالة من الألفة سريعا بين الطرفين، فخففوا الحبسة وتركوا الزنازين مفتوحة ليلا ونهارا، بينما اكتفت إدارة السجن بإغلاق باب العنبر ليلا.
هناك لعب الشيوعيون دورا في تحسين ظروف الحبسة، بدأوا بتجويد نوعية طهى الغذاء فتطوعوا للعمل بمطبخ السجن، وسعوا بعدها إلى تحسين جودة الطعام المقدم وتنوعه، وبالفعل نجحوا في إقناع إدارة السجن بزراعة قطعة من الأرض التابعة لها، وصنعوا حوضا كبيرا لتخزين المياه.
وبدأوا في توزيع الخضراوات التي جنوها بالعدل على الزنازين بما فيها عنابر الجنائيين والحرّاس.
معسكرات مفتوحة
تفجرت طاقات المبدعين وتحول المعتقل إلى شبه معسكر مفتوح متعدد الأنشطة، ممارسة الرياضة صباحًا وندوات التثقيف الفكرية مساءً، التي تنوعت ما بين محاضرات عامة في الفلسفة والاقتصاد ودروس في اللغات والرياضة، إضافةً إلى الأمسيات الشعرية والمسابقات الفنية والثقافية المتعددة، خاصة أن المعتقل كان يضم ألمع من في النخبة المثقفة آنذاك.
فكان منهم الدكتور فؤاد مرسي، وإسماعيل صبرى عبد الله، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، ومحمد سيد أحمد، ونبيل الهلالى، وفؤاد حداد، وزكى مراد، وصنع الله إبراهيم، والدكتور فتحى عبد الفتاح، والدكتور حمزة البسيونى، والدكتور عبدالرازق حسن، وفوزى منصور ، ورفعت السعيد، وحسين عبد ربه، وحسن فؤاد، وصلاح حافظ ، وسعيد خيال، وفيليب جلاب وعريان نصيف ومن النقابيين طه سعد عثمان ومحمد على عامر وغيرهم.
ندوة البطانية
هكذا أطلق عليها المعتقلون من المثقفين والكتاب والفنانين، عند تخفيف ظروف الحبسة، كان يلتقي نزلاء الزنازين في إحدى الطرقات، كل زنزانة لها بطانية واحدة يجلس عليها أصحابها، يتناقشون في إحدى القضايا العامة، يتطوع بعضهم في تلخيص كتاب قرأه يتذكر مضمونه ويعرضه على الحاضرين، ويناقشونه فيه أيضًا بعد السرد.
كان لكل زنزانة إذاعتها الخاصة ولها شعار يميزها، يتبادلون خلالها الأخبار، والفقرات الغنائية والشعرية، وكان سعيد الحظ من يسجن مع صلاح عيسى، الكاتب الصحفي الكبير، لما كان يتميز به من حس فكاهي ساخر، فكان دائمًا يستهل كلامه بسطر من أغنية لسيد درويش " بس الأكادة حبسة وظلومة..يكفينا شرك يادي الحكومة".
مجلة حائط
في هذه الأثناء، شرع الفنان حسن فؤاد، رسام الكاريكاتير والسيناريست، في إصدار مجلة حائط يومية، تنوع محتواها ما بين الموضوعات الثقافية وفن الكاريكاتير والزجل والنكات، شارك فيها نبيل الهلالى بخفة ظله، وأسس عبد الستار الطويلة وكالة أنباء السجن «واس» التي تجمع الأخبار اليومية من إذاعات العالم بواسطة الراديو الذي أرسلته لهم المجموعة الشيوعية في روما.
بينما أسس وليم إسحق وداود عزيز وعبد الوهاب الجريتلى مرسما، وخصص حسن فؤاد مكانا بين أشجار حديقة المعتقل للنحت.
مسجد الشيوعيين
في المعتقل بنى الشيوعيون مسجدا لأداء الصلوات، كان يؤمهم فيه ويخطب الجمعة الدكتور محمد عمارة، وكان يؤدى الصلاة فيه جميع من في السجن بمن فيهم الإخوان المسلمون.
سنوات عجاف قضاها المفكرون المعارضون بين وحشة سجون عبد الناصر، إلا أنهم اعتبروا تجربة السجن خطا مهما في مسيرتهم، فهى من ناحية مكنتهم من تأسيس علاقات وطيدة مع كل أجيال العمل الوطني، ومن ناحية أخرى أعادت اكتشاف مواهبهم رغم قسوة الظروف ومرارة الاحتجاز.
نقلًا عن العدد الورقي...
فى منتصف الشهر الجارى.. حلت الذكرى الثالثة بعد المائة لعبد الناصر، الذي امتلك مقومات الزعامة، وسمات الرؤساء الكبار المؤثرين. لا شك.. أن الضجيج الذي كان يرافق ذكرى مولد ووفاة ناصر آخذٌ في التراجع بوتيرة متسارعة؛ فالناصريون الحقيقيون إما قد رحلوا أو شاخوا وبلغوا من العمر عتيًا، كما أن من يعتبرون أنفسهم ورثة عبد الناصر انسحبوا من المشهد وآووا إلى مكان سحيق، فلا تكاد تسمع لهم همسًا.
ورغم هذه الإشكاليات المتناقضة والمتصادمة..يبقى "ناصر" حالة خاصة شديدة التعقيد، ولا تزال فترة حكمة في بعض جوانبها شديدة الإلهام والتأثير، كما لا تزال كنزًا لم يتم فك شفراته بالكامل، ولا تزال هناك أسرار قابلة للتفتيش والسرد والحكى والتقييم..
"السجن جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلى وحيويته المتنوعة ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة وفيه أيضا قررت أن أكون كاتبا".
كلمات استهل بها الكاتب والأديب صنع الله إبراهيم فصله الثانى من كتاب «يوميات الواحات» المستوحاة من سنوات قضاها ورفاقه من قيادات الحركة الشيوعية داخل معتقل الواحات أو المحاريق، ذاقوا فيها صنوف التعذيب والتنكيل، إلا أنه من رحم القمع تفجرت ينابيع الإبداع والفن، وكيف تحولت تلك البقعة الصحراوية الشديدة القيظ، إلى ساحة المبارزة الفكرية، تنبض فيها الروح ويمنحها أصحابها الحياة.
أغلب معتقلى الواحات يشيرون في كتاباتهم إلى قسوة ما عانوه في معتقل المحاريق، رغم أن ما حدث في سجن أبو زعبل هو الأقسى من ناحية التعذيب الممنهج، فإن تجربة سجن الواحات فيها مرارة الوحشة في الصحراء والإحساس بأن الدنيا قد تخلت عنك ونسيتك، في منطقة صحراوية قاحلة تبعد عن القاهرة بنحو 1000 كيلو متر.
يوجد مبنى من الطوب اللبن مسقوف بالخشب ومقسم إلى عدة حجرات واسعة هي ثلاثة عنابر يقسم كل عنبر إلى جناحين كبيرين بكل جناح 10 زنازين وحمام واحد به ثلاث غرف لقضاء الحاجة، والسجن محاط بسور متهالك من الخارج.
ضم الشيوعيين بمختلف تنظيماتهم، وكذلك الإخوان المسلمين المتهمين بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في حادث المنشية بالإسكندرية عام 1954، وعددا قليلا من السجناء الجنائيين.
إبداع من رحم المعاناة
من رحم الأزمات يولد الإبداع، استهدف عبد الناصر بعد عام 1954، المعارضين المثقفين ممن لهم قدرة على التأثير على الرأي العام أو محطهم، فكان أغلبهم ما بين محام وصحفي ورسام وكاتب وشاعر، وهو ما نتج عنه المكتبة المصرية الثرية من أدب السجون الذي دونها كل من ذاق ويلات السجون وقسوة الاحتجاز.
فبعد فترة التشديد الأولى على المعتقلين، بدأت الأمور تتخفف رويدا رويدا، ساهم في ذلك، وجود السجن في منطقة منعزلة وسط الصحراء كان السجانون أنفسهم في حكم السجناء، لهذا نشأت حالة من الألفة سريعا بين الطرفين، فخففوا الحبسة وتركوا الزنازين مفتوحة ليلا ونهارا، بينما اكتفت إدارة السجن بإغلاق باب العنبر ليلا.
هناك لعب الشيوعيون دورا في تحسين ظروف الحبسة، بدأوا بتجويد نوعية طهى الغذاء فتطوعوا للعمل بمطبخ السجن، وسعوا بعدها إلى تحسين جودة الطعام المقدم وتنوعه، وبالفعل نجحوا في إقناع إدارة السجن بزراعة قطعة من الأرض التابعة لها، وصنعوا حوضا كبيرا لتخزين المياه.
وبدأوا في توزيع الخضراوات التي جنوها بالعدل على الزنازين بما فيها عنابر الجنائيين والحرّاس.
معسكرات مفتوحة
تفجرت طاقات المبدعين وتحول المعتقل إلى شبه معسكر مفتوح متعدد الأنشطة، ممارسة الرياضة صباحًا وندوات التثقيف الفكرية مساءً، التي تنوعت ما بين محاضرات عامة في الفلسفة والاقتصاد ودروس في اللغات والرياضة، إضافةً إلى الأمسيات الشعرية والمسابقات الفنية والثقافية المتعددة، خاصة أن المعتقل كان يضم ألمع من في النخبة المثقفة آنذاك.
فكان منهم الدكتور فؤاد مرسي، وإسماعيل صبرى عبد الله، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، ومحمد سيد أحمد، ونبيل الهلالى، وفؤاد حداد، وزكى مراد، وصنع الله إبراهيم، والدكتور فتحى عبد الفتاح، والدكتور حمزة البسيونى، والدكتور عبدالرازق حسن، وفوزى منصور ، ورفعت السعيد، وحسين عبد ربه، وحسن فؤاد، وصلاح حافظ ، وسعيد خيال، وفيليب جلاب وعريان نصيف ومن النقابيين طه سعد عثمان ومحمد على عامر وغيرهم.
ندوة البطانية
هكذا أطلق عليها المعتقلون من المثقفين والكتاب والفنانين، عند تخفيف ظروف الحبسة، كان يلتقي نزلاء الزنازين في إحدى الطرقات، كل زنزانة لها بطانية واحدة يجلس عليها أصحابها، يتناقشون في إحدى القضايا العامة، يتطوع بعضهم في تلخيص كتاب قرأه يتذكر مضمونه ويعرضه على الحاضرين، ويناقشونه فيه أيضًا بعد السرد.
كان لكل زنزانة إذاعتها الخاصة ولها شعار يميزها، يتبادلون خلالها الأخبار، والفقرات الغنائية والشعرية، وكان سعيد الحظ من يسجن مع صلاح عيسى، الكاتب الصحفي الكبير، لما كان يتميز به من حس فكاهي ساخر، فكان دائمًا يستهل كلامه بسطر من أغنية لسيد درويش " بس الأكادة حبسة وظلومة..يكفينا شرك يادي الحكومة".
مجلة حائط
في هذه الأثناء، شرع الفنان حسن فؤاد، رسام الكاريكاتير والسيناريست، في إصدار مجلة حائط يومية، تنوع محتواها ما بين الموضوعات الثقافية وفن الكاريكاتير والزجل والنكات، شارك فيها نبيل الهلالى بخفة ظله، وأسس عبد الستار الطويلة وكالة أنباء السجن «واس» التي تجمع الأخبار اليومية من إذاعات العالم بواسطة الراديو الذي أرسلته لهم المجموعة الشيوعية في روما.
بينما أسس وليم إسحق وداود عزيز وعبد الوهاب الجريتلى مرسما، وخصص حسن فؤاد مكانا بين أشجار حديقة المعتقل للنحت.
مسجد الشيوعيين
في المعتقل بنى الشيوعيون مسجدا لأداء الصلوات، كان يؤمهم فيه ويخطب الجمعة الدكتور محمد عمارة، وكان يؤدى الصلاة فيه جميع من في السجن بمن فيهم الإخوان المسلمون.
سنوات عجاف قضاها المفكرون المعارضون بين وحشة سجون عبد الناصر، إلا أنهم اعتبروا تجربة السجن خطا مهما في مسيرتهم، فهى من ناحية مكنتهم من تأسيس علاقات وطيدة مع كل أجيال العمل الوطني، ومن ناحية أخرى أعادت اكتشاف مواهبهم رغم قسوة الظروف ومرارة الاحتجاز.
نقلًا عن العدد الورقي...